كتب: رئيس الوزراء الاسبق سمير الرفاعي
بدءاً بالاتصال والتباحث مع أبرز قادة العالم، منذ الأسبوع الأول لأزمة وباء فايروس كورونا المستجد، مروراً بالمقال في "الواشنطن بوست" وما تضمنه من رؤية واضحة وقراءة عميقة، وليس انتهاء بالمشاركة في القمة العالمية لمكافحة الوباء؛ أكد جلالة الملك عبدالله الثاني ضرورة أن يكون العالم أكثر انفتاحاً، وأن تمدّ الدول والمجتمعات مزيداً من الجسور نحو بعضها البعض. ويصر جلالته على أن العالم اليوم بحاجة للتعاون والثقة بدلاً من التنافس والتناحر.
لقد كان جلالة الملك، على الدوام، واضحاً في موقفه الرافض للتخندق وبناء الأسوار وسياسات "اللهم نفسي"، التي برهنت الأزمة العالمية الأخيرة؛ أنها وإن كانت مفيدة جزئياً، في بعض جوانب المعركة الصحية، لكنها قاتلة في كل الجوانب الأخرى.
الأردن ليس وحيداً في اعتماده على الاستيراد فيما يخص الطاقة أو الغذاء أو سواها. وفي الواقع المعاصر، لم يعد مصطلح "الاكتفاء الذاتي" حقيقياً، حتى في الدول المغلقة مثل كوبا وكوريا الشمالية.
وفي المقابل، فإن مبدأ "الاعتماد على الذات"، الذي دعا له جلالة الملك، وتضمنته توجيهاته السامية وأوراقه النقاشية وحواراته الوطنية، هو العنوان الأبرز لمجابهة التحديات الكبيرة في عالم يتحول، ويشهد منعطفات غير مسبوقة.. وهذا المبدأ لا يعني العزلة، وإنما التفاعل مع العالم من موقع القوة والتأثير، القوة التي تأتي عندما نأكل مما نزرع، ونلبس مما نصنع.
ومن هنا؛ كانت دعوة جلالته، منذ اليوم الأول، لأزمة انتشار فيروس كورونا إلى تحرك إنساني في وجه هذا الوباء وتبعاته، التي ستغير العالم بصورة لم نعهدها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
ومن أجل اقتصاد عالمي ناجح، لا بدّ من مناخ سياسي معتدل ومنفتح، يتناسى كل خلافات الماضي، ويبدأ صفحات جديدة تخدم جميع أفراده.
وفي عالم اليوم وتعقيداته، لا يمكن أن تحافظ أي دولة على استقرارها إذا كان جوارها غير مستقر، ولا على رخائها وجوارها يعاني الفقر. وقد أثبتت السنوات القليلة الماضية ذلك عمليا.
واليوم، لا بد من حل كل إشكالات إقليمنا وعالمنا العربي، والوصول إلى حلول وسط، واقعية، تضمن إعادة الانفتاح وحل كل الأزمات العالقة بدءاً باليمن، مرورا بسوريا ولبنان والعراق، وصولا إلى ليبيا. وعلى رأس الأولويات دائما، القضية الفلسطينية ومركزيتها.
وبغير ذلك، فلا استقرار اجتماعي ولا سياسي. وبالتأكيد لا استقرار اقتصادي.
لم يعد سراً أن الاقتصاد العالمي الذي وصل إلى درجة قاربت التجمد طوال الأسابيع العشرة الماضية تقريبا، لم يشهد مثل هذا الأمر وعلى هذا المستوى أبدا، ولا حتى أثناء الحروب العالمية؛ حيث معدلات البطالة عالمياً دخلت في خانة مئات الملايين، ومستويات التراجع في ميزانيات الدول الكبرى غير مسبوقة، وتوقعات الانكماش الاقتصادي لا تقل عن 4-5% بالنمو السالب في الاقتصاديات الصغيرة وتصل إلى 10-20% في الاقتصاديات الكبرى.
وحتى الحكومات التي اتخذت أوسع وأكفأ الاجراءات المالية والاقتصادية مثل الحكومة الألمانية التي أوصلت الدعم النقدي المباشر إلى كل المؤسسات التجارية والاقتصادية وحتى الأفراد خلال أقل من أسبوع واحد، ودون قيد أو شرط أو التقدم بطلبات ومتابعات، حتى هذه الحكومة، لم تنل الرضى الكامل من شعبها، ولا نجحت في الإفلات من قبضة الركود وتبعات الكارثة، فما بالكم بالحكومات الأكثر بطأ والأقل كفاءة!
كل هذا، يؤكد أن لا أحد مهما كانت قوته مؤهل أو قادر على الخروج من هذه الأزمة منفرداً. والعمل الجمعي والشراكة، ليس على المستوى الدولي فحسب بل على المستوى الإنساني، بات السبيل الوحيد.
لكن حتى تكون شريكاً فاعلاً، يجب أن تكون شريكاً قوياً. وهذه القوة تأتي قبل كل شيء من مناعتك الداخلية، اجتماعيا واقتصادياً.
وهذا يعني، وقبل أي شيء، أن نسعى بسرعة أكبر وفاعلية، نحو رفع كفاءة الجهاز الحكومي وزيادة التعاون بين السلطات، وتيسير سبل التواصل مع مختلف القطاعات، وفتح قنوات كبيرة للتغذية الراجعة، وتسهيل أدوات إيصال الدعم إلى القطاعات والمؤسسات المستحقة وفق أولويات واضحة، ما سيعزز بمجمله، الثقة بين المواطن والمؤسسات الرسمية. وبالتالي، يعزز مناعة المجتمع عبر زيادة تكاتفه مع أجهزة الدولة، ومع مكوناته ذاتها.
وبما أن الجائحة اقتصادية مثلما أنها صحية، فإن علاجها الأول بالسيولة المتحركة في أيدي العامة، وليس المتجمدة في الحسابات البنكية.
يجب تشجيع الأردنيين جميعا، في الوطن وأبنائنا المغتربين، على الاستثمار وضخ أموالهم في السوق عبر إلغاء المبررات التي تجعل تجميدها أكثر أمناً أو ربحاً، ويكون ذلك عبر قوانين اقتصادية واستثمارية واضحة وثابتة، وإجراءات رسمية ميسرة، وضرائب مخففة، وطرح سندات واستثمارات حكومية متاحة للجميع وبعوائد مقبولة، وفوائد إقراض وإيداع منخفضة، ومحفزات تعيد سوق عمان المالي إلى ازدهاره، وبنى تحتية لمشاريع كبرى منتجة وحقيقية. والأهم؛ ثقة مجتمعية وبُعد عن السلبية ونشر الشائعة والإحباط.
ونحن هنا لا نعيد اختراع العجلة، فالأردنيون على شح مواردهم هم من أنشؤوا مؤسسات الوطن الكبرى، مثل الجامعة الأردنية، ومؤسسة الإذاعة والتلفزيون، ومدينة الحسين الرياضية، وقناة الغور، والتطوير الحضري، أنشؤوها من جيوبهم وتبرعاتهم ودعم خزينتهم ولو بفلس. بل تجاوزوا ذلك إلى دعم الدول العربية الأكبر والأغنى في وقت شدتها، بالتبرع من رواتبهم ومصروف أبنائهم، حتى قبل زمن بحبوحة تحويلات المغتربين أو تدفق المساعدات.
واليوم، لن يعجز الأردنيون، من مقيمين ومغتربين، عن أن يدعموا أنفسهم ومستقبل أبنائهم ودولتهم بالاستثمار في مشروعات كبرى يُفتح لها باب الاكتتاب العام أو ريع سندات خزينة، لإحياء منطقة وادي عربة، أو إنشاء قناة البحرين، أو مدّ سكك الحديد بين المحافظات لتنمو، ونتصل من خلالها مع كل الجوار العربي.
ومثل هذه المشاريع الكبرى، لن تنعش الاقتصاد وتخفض معدلات البطالة وتحمي آلاف الأسر من أن تلتحق بصفوف طالبي المعونة فحسب، بل ستكون مصدر جذب لاستثمارات عالمية، ستأتي لأي دولة تظهر هذا القدر من الإيجابية والثقة.
لقد أحسنت الحكومة صنعاً بقرارها إعادة فتح الاقتصاد، وإن كان من باب أولى أن تعود أجهزة الحكومة ذاتها إلى العمل باعتبارها أكبر مشغل في السوق، ضمن معايير صحية وقائية صارمة بما في ذلك التوسع في إجراء الفحوصات. كما لا بد من الثناء على ما أعلنته من خطوات تخص مرحلة التعافي تشمل من ضمن ما تشمل إنشاء صندوق استثماري لدعم وتحفيز الاقتصاد، لكن ربما كان من الأفضل أن لا تكون البنوك المحلية شريكا في هذا الصندوق، حتى توجه كل جهودها نحو الإقراض المباشر للأفراد والمؤسسات بدلا من تشتيته بين عدة جبهات. كما نتمنى أن يكون إنشاء وعمل هذا الصندوق سريعا، ميسرا، وخاليا من الإجراءات البيروقراطية المعقدة.
والآن، يجب أن ننتقل من خطوة فتح الاقتصاد إلى خطوة إعادة تشغيله، ودعم المتعثر منه، وإنقاذ من أوشك على الانهيار، بسرعة وكفاءة بعيدتين عن التعقيدات المترافقة عادة مع العمل الرسمي.
وها نحن نرى البنوك المركزية حول العالم تتحدث صراحة عن تغيير سياساتها، ونيتها الدخول في استثمارات غير معهودة لمثل هذه المؤسسات، وحتى القيام بدعم أو تغطية أجزاء من القروض القائمة والمستجدة للمؤسسات والأفراد، في سبيل حقن الدواء الشافي في عروق الاقتصاد، وهو السيولة. وعندما تكون مشكلة الاقتصاد هي السيولة فقط فسيمكنه التعافي خلال وقت قصير. لكن إذا تحولت مشكلة الاقتصاد إلى مشكلة توفر السيولة أو الإعسار فذلك يعني ذوبان رؤوس الأموال، وهذه مشكلة قد لا يمكن التعافي منها في المدى المنظور.
لذا، لا بديل عن ضخ السيولة من القطاعين العام والخاص. والحكومة مطالبة بخفض نفقاتها الجارية بأكبر قدر ممكن، وتوجيه كل الوفر نحو مشروعات كبرى تشغل الشركات المحلية والأيدي العاملة الأردنية، تماماً مثلما أن البنك المركزي مطالب بضخ مزيد من السيولة في المؤسسات الصغيرة والمتوسطة لمساعدتها على النجاة، ضمن العديد من الإجراءات التي يمكنه القيام بها لتحفيز السوق، كما يجب عليه أن يتابع بدقة أكبر أداء البنوك المحلية فيما يخص المبالغ التي وجهها لدعم الشركات وتغطية رواتب القطاع الخاص.
جزء من الإنعاش الداخلي يكون أيضا بجذب الاستثمارات؛ فالاقتصاديات الصغيرة والأقل تأثراً بالأزمة ستكون جاذبة لرؤوس الأموال، خاصة أن العديد من الدول بدأت بالنزوح إلى سحب بعض استثماراتها من الدول الأكثر تضرراً صحياً واقتصادياً. وبالتالي، هنالك فرصة لدولة أثبتت قوتها وكفاءة إدارتها مثل الأردن لجذب الاستثمارات. وعلى سبيل المثال، قررت اليابان سحب مصانعها من الصين، وقد تجد في الأردن بديلا مناسبا، بما يعنيه ذلك من تنمية وفرص وتكنولوجيا عالية، يمكن توطينها في بلدنا وتدريب شاباتنا وشبابنا على تقنياتها.
وحتى نستثمر الفرصة، لا بد من إعادة النظر في تفاصيل كثيرة، تبدأ بأثمان الطاقة، والرسوم والضرائب، وقوانين الاستثمار، ولا تنتهي عند تكاليف السياحة العلاجية، وتسهيل الإجراءات الحكومية وتخفيض أسعار المبيت في الفنادق. وهي مسائل سهلة التطبيق وقد سبق لنا تجربة التخفيضات الضريبية في 2010 مثلا، وشهدنا انعكاس ذلك إيجاباً على الإيرادات.
وبالطبع، فكما أن على الحكومة مسؤوليات كبيرة فإن مسؤولية القطاع الخاص ليست أقل. وفي ظل عدم وجود علاج لهذا الوباء، فإن احتمال تكرار موجات عدة منه يظل قائماً. وبالتالي، على القطاع الخاص التأقلم وتعزيز الجوانب الأكثر تماشياً مع هذا النمط الجديد، عبر زيادة الاستثمار في الرقمنة، والعمل عن بعد، وتنويع المنتجات وأساليب التسويق، في مقابل تخفيض النفقات غير الأساسية، وبناء احتياطي نقدي يمكن المؤسسات من الصمود خلال فترات الإغلاق اللاحقة. كذلك، عليه الحرص على المصداقية والشفافية مع السوق والعاملين على حد سواء، ما يطيل عمر المؤسسة ويزيد مناعة القوى العاملة.
وحتى لا نخسر جميعاً، يجب على القطاع الخاص أن يكون أكثر رحمة تجاه المستهلكين، خاصة ونحن مقبلون على حالة من الكساد، ستفرض حتى على من يملك السيولة أن يكون أكثر حرصا في الإنفاق. وقد يتعسر آلاف من المقترضين، وتنتقل آلاف الأسر من الطبقة الوسطى إلى ما دونها.
يجب أن يتفهم السوق وبالأخص قطاع البنوك ذلك، ويتعامل معه بكثير من الانفتاح وأساليب التيسير، مثل إعادة الجدولة، وتخفيض الفوائد، وإعادة شراء السلع، المبيعة بالتقسيط، التي يُعسر ملاكها، وشطب بعض الفوائد والديون البسيطة، وليكن ذلك مقابل تخفيضات ضريبية وصور دعم أخرى تقدمها الحكومة للقطاع المصرفي، في سبيل إبقاء السيولة في السوق وبين أيدي الناس.
دون ذلك، سنجد أنفسنا أمام شح في السيولة يبدأ من الأفراد وسرعان ما سينتقل إلى الحكومة التي ستجد نفسها دون مصدر دخل.
واسمحوا لي أن ألخص ما اقترحه من إجراءات للسنوات القليلة القادمة..
لا ضريبة مبيعات على السلع الأساسية، تخفيض ضريبة المبيعات على السلع غير الأساسية، تخفيض ضريبة الدخل والجمارك والضرائب العامة، منح إعفاءات ضريبية إضافية لكل من يشغل أيد عاملة أردنية، إصدار سندات خزينة ذات فائدة منخفضة، ومدد سداد متدرجة بين 3 – 10 – 30 عاما، يخصص ريع كل فئة منها لأحد أشكال الدعم والاستثمار، وتطرح للتداول العام وتكون مفتوحة للاستثمار أمام جميع المواطنين، وتحول لصالحها نسبة بسيطة من الودائع الكبيرة الخالية من أي ذمم، والمجمدة في البنوك المحلية، بحدود 2%، لتكون استثمارا عائدا لصاحب هذا الحساب، ولنسمها (سندات خدمة وطن، وهي فكرة سبق أن طرحتها وأظن أنها احتاجت مزيدا من التوضيح تجنبا لفهمها بشكل مجتزأ)، وتتزايد فوائد هذه السندات بزيادة عمرها وغايتها، فالسندات الأقصر عمرا يوجه ريعها للدعم المباشر للسوق، بينما الأطول عمرا والأعلى فائدة فتوجه إلى المشروعات الكبرى، بعد ذلك يتم تحديد القطاعات الأكثر حاجة للدعم، وفي الوقت ذاته، الأكثر قدرة على تحريك السوق والاقتصاد، ويتم توجيه المبالغ المتأتية من ذلك نحو تحفيز الاقتصاد، مع عدم انفاق أي مبالغ منها على النفقات الحكومية الجارية، هذه السندات ستؤدي دورا مزدوجا الأول هو تحريك السوق وتحفيز الاقتصاد، والثاني هو إراحة الحكومة من الاقتراض دوليا ومحليا، خاصة أن الحكومة باقتراضها من البنوك المحلية تزاحم المواطن والقطاع الخاص، وتصبح وكأنها تستعيد باليد اليسرى ما قدمته من دعم باليد اليمنى، فتحرم الوطن والمواطن من ثماره الحقيقية.
حفظ الله الأردن وشعبه وقيادته، وجعل سبحانه من بعد هذا العسر يسرا إنه سميع مجيب.