حالة الخوف التي يعيشها الناس جعلت كلا منا يقترب من الآخرين في المشاعر، في الوقت الذي نتباعد فيه فيزيائيا. الأزمة دفعت بنا إلى المراجعة والتأمل وأطلقت مواهب الناس في الرسم والوصف والتواصل والتعبير والتصوير. من أجمل وأدق الأوصاف لأوضاعنا صورة للكرة الأرضية كتب عليها “under maintenance” أو تحت الصيانة.
الصيانة التي تمر بها الأرض لا تتوقف عند حدود، فهي تشمل صحتنا وسلامتنا وعلاقاتنا وطرق تفكيرنا وتصرفنا وأساليب تعاملنا مع الآخر وإدارة شؤوننا العامة والخاصة. بعد اليوم لا أحد يتوقع استمرار العادات السائدة ولا شكل العلاقات القائمة بين الإنسان والأرض.
على امتداد الأرض التي لا تزال الموطن الأساسي لمجاميع الكائنات الحية وغير الحية نشأت أنظمة بيئية متنوعة اتسمت بالتوازن والتكامل قبل أن يؤدي تقدم العلم والتكنولوجيا والاستخدام الجائر إلى اختلال العلاقة وتشوه الأنظمة واختفاء بعض عناصر وسلاسل هذه الأنظمة وحلقاتها.
كنتيجة لهذه الاختلالات لوحظ في السنوات الأخيرة تقلص لمساحة وكثافة الرقعة الجليدية، واشتعلت الكثير من الحرائق التي أتت على مساحات واسعة من الغطاء النباتي وأدت إلى انقراض بعض السلالات الحيوانية وبروز ظواهر مناخية جديدة تمثلت في جفاف بعض الأقاليم وتحول بعض المناطق الجافة إلى ماطرة. مع كل ما حدث لم يكن لدى العالم خطة واضحة لوقف التدهور وانقاض الحياة عليها.
حتى أشهر قليلة اعتقد علماء الأرض وخبراء البيئة والمناخ أن مستقبل البشرية في خطر إذا لم يغير البشر علاقتهم بالأرض ويبدلوا الأنماط الاستهلاكية التي اعتادوا عليها. فالناس يستهلكون ما يفوق حاجاتهم ويعتدون على حقوق الأجيال القادمة في الموارد ويحرقون الكثير من الوقود الذي يرفع من حرارة الأرض ويؤثر على غلافها الجوي ويهدد بدمار لكوكب الأرض ومستقبل حياة الإنسان عليه.
لم يكن التلكؤ في تبني برنامج عالمي لحماية الكوكب بسبب غياب المعرفة بمقدار ما كان نتيجة لتنافس الدول الصناعية ودخولها في سباق اقتصادي وسياسي للهيمنة والسيطرة على الموارد والأسواق. فقد جوبهت المقترحات والمشاريع والاتفاقيات التي طرحتها مؤتمرات الأرض وبرامج الحد من التلوث بمقاومة واعتراض من الولايات المتحدة وبعض حلفائها الذين ألقوا باللوم على الدول والقوى الأخرى.
خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة تطورت المعارضة وتعمّقت الخلافات بين قادة العالم الصناعي بعد وصول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، حيث أصبحت المعارضة لبرامج الحد من التلوث واضحة وصريحة ووصلت إلى حد الانسحاب من المبادرات والجهود التي سبق لأسلافه أن التزموا بها.
من غير عناء وبصورة تتجاوز المواقف التي تبناها الرؤساء والزعماء جاءت جائحة الكورونا لتحد من الاستهلاك العالمي وتوقف حركة الطيران وعمل الكثير من المصانع وتضعف الإقبال على شراء واستهلاك النفط، وفي أقل من شهرين انخفض مستوى التلوث إلى مستويات غير معهودة وعادت الكثير من الحيوانات إلى مواطنها الأصلية، واختفت هيمنة الإنسان على الفضاء والمجال الحيوي.
في دلهي وكاليفورنيا وتايلند أظهرت الشاشات مشاهد لقرود وغزلان وحيوانات برية تجوب شوارع المدن التي خلت من المارة بعد فرض الحظر على السكان. الصور الملتقطة لثقب الأوزون تشير إلى تقلص الثقب واحتمالات انسداده خلال أيام.
التاريخ الإنساني مليء بالحوادث والوقائع التي شكلت نقاطا فاصلة ومنعطفات غيرت في طرق التفكير والتفاعل والعلاقات بين الأمم وعرفت وجودها ومكانتها في النظام الكوني. من المؤكد اليوم أن التاريخ سينظر لهذه المرحلة باعتبارها نقطة التحول الأهم التي تخلى فيها الإنسان عن العادات والأنماط والعلاقات التي تطورت في أعقاب الثورة الصناعية وظهور الرأسمالية.
النظرة الجديدة للإنسان والكون والحياة ستكون أكثر وعيا وإدراكا لمكانة الإنسان في النظام الكوني الواسع. أزمة الكورونا جعلت الأرض ومن عليها يتخلون عن الاتجاهات المشبعة بالاستعلاء والغطرسة والغرور وتكسبهم الكثير من الاحترام والتقدير للبيئة والإنسان والحياة.
الغد