ملف الطاقة في الأردن هو الثقب الأسود الكبير الذي يستهلك مخزون المؤسسات من الثقة، فكلما راكمنا رصيدا في الخزان، تحضر أزمة في قطاع الطاقة لتسحب الرصيد
عمليا تمكنت مؤسسات الدولة من إدارة المشكلات الأخرى التي يواجهها الأردن وتقليل أثرها على مخزون الثقة. وحصل مايشبه التفاهم الضمني بين القوى الاجتماعية والمؤسسات على أن مشاكل مثل البطالة وغلاء المعيشة والفقر، هي في الواقع تحديات مزمنة تتطلب نفسا طويلا للتعامل معها والتخفيف من وطأتها
الطاقة تحبط جميع الجهود المبذولة، وتقفز كل يوم إلى واجهة الأحداث كقضية تستفز الجمهور العريض من المواطنين
لا ننكر أن الحكومات المتعاقبة، خاصة الحكومة الحالية قد بذلت جهودا جدية لإضفاء قدر معقول من الشفافية على إدارة الملف ومعادلات الطاقة كتسعيرة المشتقات النفطية والكهرباء، لكن مع كل خطوة كان الغموض يزداد وتقفز إلى السطح أسئلة جديدة وملفات أكثر سخونة كاتفاقيات الغاز والطاقة المتجددة وبنود فاتورة الكهرباء ورسومها وضرائبها العجيبة، وفرق أسعار الوقود
ولم تكن تنقص الحكومة مصائب جديدة في الطاقة حتى حلت عليها وعلينا مصيبة القيم المرتفعة لفواتير الشهرين الماضيين، فغدا الملف كتلة لهب مشتعلة تعصف بسمعة القطاع وثقة الناس بالمؤسسات المعنية
ارتفع الاستهلاك أو انخفض، النتيجة أن معدل السخط الشعبي تضاعف مع استلام أول فاتورة
كانت مقررا منذ أسابيع أن تكشف الحكومة ممثلة بوزارة الطاقة عن استراتيجيتها الجديدة للقطاع، لكن تحت وقع الأزمات المتلاحقة والشكوك المتراكمة تراجعت الوزارة عن الإعلان عدة مرات، ولغاية اللحظة لم تر الاستراتيجية النور
أول من أمس، وبعد أسابيع من الترقب كشفت اللجنة النيابية المشتركة عن تقرير ديوان المحاسبة الذي كلف بتدقيق فواتير الكهرباء محل الجدل الشعبي، واستنادا لما توصلت إليه فرق التدقيق من نتائج، لم تختلف في جوهرها مع ما كانت تعلنه الحكومة بشأن قيم الفواتير وضعت اللجنة النيابية حزمة من التوصيات القوية على أمل ان يتبناها مجلس النواب قريبا وإرسالها للحكومة لتنفيذها
التوصيات نصت على شطب فوري لرسوم النفايات عن الفواتير السابقة وعدم ربطها بزيادة الاستهلاك، وتقسيط الفواتير على المواطنين، لكن الأهم من ذلك إلغاء بند فرق أسعار الوقود من فاتورة الكهرباء، وهو مطلب شعبي كانت الحكومة قد وعدت بربطه بأسعار النفط إلا أنها لم تلتزم بوعدها
وأوصت اللجنة كذلك، بتحويل عدادات الكهرباء إلى ذكية، وفي هذا الصدد فإن خطوة كهذه ينبغي تطويرها لتصبح قراءة العدادات متاحة من غرف التحكم في الشركة، دون الحاجة لموظفين يجوبون الأحياء، تماما كما هو الحال مع شركات الاتصالات. هذه التكنولوجيا متاحة عالميا وفي جميع القطاعات، واستخدامها كفيل بتجنب مشكلة التأخر في قراءة العدادات، والتي رتبت على المستهلكين الانتقال من شريحة إلى أخرى مع ما يرافق ذلك من زيادة على قيمة الفواتير
لكن من الواضح أن إشكالية الطاقة في الأردن تعود في جذورها إلى اختلالات عميقة رافقت القطاع منذ مشروع الخصخصة، وما تلته من تطورات حكمتها ظروف داخلية ومؤثرات خارجية لبلد يستورد كامل طاقته تقريبا
قبل إصدار استراتيجية جديدة لقطاع الطاقة، نحن بحاجة لكتاب أبيض يشرح ماجرى لهذا القطاع خلال العقدين الأخيرين، ويرسم خريطة طريق لتصويب المعادلات التي تحكمت في عمله، وإنصاف المستهلكين الذين تعرضوا للخداع طويلا، وقبل ذلك وقف النزيف من مخزون الثقة بمؤسسات الدولة
الغد