مدار الساعة - بقلم: اللواء الركن (م) د. محمد خلف الرقاد *
بداية أدرك تماماً بأن ما ستطرحه هذه المقالة سيثير جدلاً على المستويين الفكري والسياسي في وطني، وربما تجاوز ذلك ليخالف التنظير السياسي الذي وضع بعضُه حدوداً للعلاقة العسكرية المدنية في النظم السياسية، حيث وضع طروحات تحترم وتقدر النخبة العسكرية، لكن تبقيها خارج إطار الصف الأول قي القيادات السياسية أو في النخبة السياسية وبخاصة الحاكمة.
لكنني أؤكد أن ما سيطرح يشكل طرحاً وطنياً بامتياز، وجدير بأن يُنظر فيه بدقة، فهو يقدم وجهة نظر أو رأياً، وربما أصِرُّ أن أطلق عليه فكراً، بحيث يقدم المؤسسة العسكرية الأردنية / الجيش العربي كأنموذج مثالي يسهم بفاعلية في تكوين النخبة السياسية وبخاصة الحاكمة، وذلك تحت مظلة الدستور والقانون، ومن خلال القنوات السياسية المتاحة للمشاركة في العملية السياسية بفاعلية بعد التقاعد، وذلك نظراً لما تتمتع به هذه النخبة العسكرية الأردنية التي تقاعدت بعد أن أدّت شرف الخدمة العسكرية التي قد تتراوح عند البعض من عقدين إلى ثلاثة عقود، وربما زادت أكثر عند متقاعدين عسكريين آخرين، فهذه النخبة تمتلك الآن من النضوج الفكري والمعرفة والخبرة والتجربة على المستويين الاستراتيجي العسكري والسياسي، ما يجعلها قادرة على الاستجابة لمتطلبات العملية السياسية في النظام السياسي الأردني، نظراً لما تمتلكه من إمكانات وقدرات في الانتقال والتحول من نخبة عسكرية متميزة إلى نخبة سياسية فاعلة وقادرة على تسخير تجاربها وخبراتها ومعرفتها لاتخاذ قرار سياسي راشد وحكيم من خلال المواقع التي يمكن أن تصل إليها سواء أكان ذلك على مستوى المشاركة السياسية من خلال خوض الانتخابات النيابية والوصول إلى قبة البرلمان، أو من خلال ثقة النظام السياسي المتمثل بجلالة الملك بإشراك هذه النخبة بتحمل المسؤولية السياسية والمساهمة في صنع القرار السياسي من خلال التشكيلات الوزارية المتعاقبة أو التعيين في مجلس الأعيان، وإن كان مثل هذا الطرح يعارض تشريعات أو تعليمات حددت مؤخراً شغل الوظيفة العامة بثلاثين عاماً، حيث حرمت النظام السياسي الأردني من كثير من الخبرات العملية ومن الفكر الناضج بالإحالة إلى التقاعد مبكراً.
لقد تربت هذه النخبة العسكرية التي تحولت وانتقلت بعد التقاعد إلى النخبة السياسية في المؤسسة العسكرية الأردنية / الجيش العربي، وظلت مثالاً للانضباط والنظام والطاعة، والعمل على تنفيذ ما يسند إليها من واجبات تخدم أهداف القيادة السياسية العليا في إطار الاستراتيجية الوطنية الشاملة، على اعتبار أن القوات المسلحة الأردنية / الجيش العربي باستراتيجيتها العسكرية وقوتها المادية والمعنوية هي الذراع المتقدم والقوة الضاربة في الدفاع عن الوطن، وفي تحقيق أهداف الاستراتيجية الوطنية خدمة لمصالح الأردن العليا، إلى جانب الاستراتيجيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والتعليمية والثقافية في الأردن الأشم.
فالنخب العسكرية تماماً كالنخب السياسية والاقتصادية والثقافية قادرة على أداء دورها بفاعلية في تخصصها، وقادرة على التفاعل والتناغم والتساوق مع النخب الأخرى وبخاصة السياسية، حيث تمنحها تربيتها العسكرية بُعداً سياسياً يمكِّنها من المشاركة بفاعلية في العملية السياسية في الأردن.
وهذا الطرح ليس تنظيراً غير قابل للتطبيق، بل جاء بناءً على دراسات أجراها الكاتب عكست نجاح النخبة العسكرية الأردنية التي تحولت للنخبة السياسية في الأردن خلال الفترة من عام 1989 – 2019، حيث شكّلت النخبة السياسية القادمة من البيئة العسكرية ما نسبته (18.48%) من أعضاء مجالس النواب من المجلس الحادي عشر وحتى الثامن عشر، وهذا رقم يعطي مؤشراً قوياً على مدى المساهمة في وضع التشريعات واتخاذ القرارات السياسية في مجلس النواب، أما على مستوى منصب رئيس الوزراء فقد شكّل (5) رؤساء وزارات من ذوي الخلفية العسكرية (9) وزارات من أصل (25) وزارة، حيث بلغت نسبة هذه الوزارات (36%) من الوزارات التي شكلت خلال الفترة من 1989 – 2019، وهذا يعطي مؤشراً قوياً على قدرة وإمكانات العسكريين المتحولين للسياسة بعد التقاعد على قيادة العملية السياسية بكفاءة عالية جداً، أما على مستوى منصب الوزير، فقد شكّل الوزراء القادمون من النخبة العسكرية ما نسبته (12.33%) من الوزراء خلال فترة الدراسة، وعلى صعيد التعيين في مجلس الأعيان، فقد شكل الأعيان من ذوي الخلفية العسكرية ما نسبته ( 22.5%) من مجموع أعضاء مجالس الأعيان من السادس عشر وحتى السابع والعشرين.
إن النسب أعلاه جديرة بأن تُرفع لها القبعات، حيث كرّست هذه النخبة عمرها وعلمها وخبرتها لخدمة النظام السياسي الأردني.