رغم صمود المظاهرات وتألقها، ما يزال الانتصار على الطائفية في العراق ولبنان هدفاً بعيد المنال، فهي متجذرة بين أوساط النخبة المتحكمة، ورائجة بين قطاعات واسعة من الشعب، وجزء أساسي من المعادلات السياسية الناظمة. ملفت جداً هذا الاستمرار والاصرار، والحزم الغاضب السلمي الذي مارسه المحتجون الرافضون لسياسيات الحكم الطائفية، ورغبتهم الوطنية الصادقة بالانقلاب عليها. حضورهم الديمغرافي الكبير والنوعي في ميادين الاحتجاج، بسلمية وحضارية وإبداعية، ترفع له القبعات، وتنحني له الهامات التي لا تمتلك الا تقديم الاعجاب الكبير والمحبة لما يسطره اللبنانيون والعراقيون. لقد أعادوا لنا الثقة بأن هذا الوطن العربي الضارب بالتاريخ، فيه مخزون حضاري وقيم إنسانية تقدمية، تؤهله ليكون في مصاف الدول والاقاليم الرائدة في العالم
تجتاح تضاريس الوطن العربي العتيد الكثير من أشكال القبح والتأخر السياسي، يأخذ أشكالا تسلطية متباينة ليست الطائفية أقبحها. الزبائنية، الاحتوائية، الرعوية، الفساد والإفساد، الاصلاحات الشكلية، الشعبوية، نخر الثقافة والقيم، ترسيخ رفض التعددية والاختلاف، كلها أشكال وأساليب وظفت من أجل إحكام السيطرة، وتأمين الحكم لقلة من النخبة المستفيدة المستبدة. النتيجة كانت إضمحلال السياسة وابتعادها عن النقاشات الموضوعية لإصلاح الشأن العام، فحلت مكانها الشخصانية وسواد السلبية التي تشكك بكل شيء. ضعفت المؤسسات، وغابت آليات صناعة القرار الواضحة والشفافة التي تستبدل السياسات بأخرى أكثر فعالية، وسادت روح الخوف والتشكيك والتنابز والاقتناص
وطننا العربي عصي على الفهم والتحليل، فهو من آخر ما تبقى من معاقل الدكتاتورية والشمولية والطائفية والتعصب والغلو، يدور مكانه في حلقة مفرغة في محاولات البحث عن الشفافية، والحاكمية الرشيدة، والسياسات المنتجة. امتلأ فضاؤه العام بالضباب والخوف، تجتاحه المؤامراتية، والتنابز والتخوين. أصبح أضحوكة العالم الذي يبني ويتقدم ويزدهر، فيما الوطن العربي غارق منذ قرون في سياسات المحاصصة الطائفية البائسة، ولعبة الاصول والاعراق الجينية التي غادرها العالم المتحضر ويشفق على من ما يزال حبيسها. قتل ذلك الريادة والتقدم والتميز، ففي بلادنا العربية لا يهم ما هي إنجازاتك ولا اختراعاتك ولا ريادتك وماذا قدمت لمجتمعك وللإنسانية، المهم من أي طائفة أو عرق أنت، وما هي أصولك وهل تصنف موالية للنخبة الحاكمة
صورة عربية قاتمة يعترف بها قليلون ويرفضها المسيطرون. بالرغم من قتامتها، أضاء اللبنانيون والعراقيون ضوءاً جميلاً ساحراً في آخر نفق القهر والتأخر في وطننا العربي. ضوء يعد بالخير، مليء بالسلمية والحضارية والمحبة، يقول لحكام تلك البلدان بئس أنتم وبئست طائفيتكم وعرقيتكم ومحاصصتكم، نحن نستحق افضل منكم. نستحق التقدم والازدهار، والعدالة والمساواة، ومكافأة المجتهد منّا والرائد بصرف النظر عن عرقه وطائفته وأصله وفصله. نستحق أن نكون بمكاننا اللائق بمصاف الدول الديمقراطية الحضارية الناجزة، فنحن أمة ساهمت بتقدم الانسانية وبنائها المعاصر الحديث.
الغد