في لبنان يختلط الغضب بالفرح والهتاف بالموسيقا. الشارع اللبناني وساحات المدن تعج بجموع المتظاهرين الذين خرجوا على انغام الموسيقا واصوات الحناجر التي تنادي بإسقاط الحكومة والنواب وتدعو الى رحيل السلطة ومحاسبة الفاسدين واعادة الاموال المنهوبة. اللبنانيون يدعون الى الخروج من عباءة الطوائف والتحرر من التبعية ووقف ترتيبات تقاسم السلطة على اسس دينية وطائفية وحزبية. رفع السرية المصرفية عن اموال وحسابات المسؤولين هو المطلب الاهم في قائمة الاتهامات التي يوجهها المتظاهرون للرؤساء والوزراء والنواب الذين هيمنوا على المشهد العام عبر ما يزيد على سبعة عقود.
مع تعديلات طفيفة على اسماء الاماكن تشعر وكأن الجمهور اللبناني يردد اغنية سلطية لعمر العبداللات، ففي لبنان اليوم الكل “لبنانية” لا شيعة..ولا سنة..لا أمل..ولا تيار” .الكل يبدو لبنانيا بالرغم من ظهور صور من البلطجة والطائفية إلا انها ما تزال محدودة. في شوارع بيروت يلتقي المتظاهرون السنة بالشيعة والمارونيون بالارمن وحزب الكتائب بكتلة التغيير ولا ينقصهم الا اغنية جديدة تصف حالة الوحدة الجديدة لمجتمع مزقته الطائفية والانقسامات وكرستها اتفاقية الطائف وانتخابات البرلمان واعراف اقتسام السلطة والمنافسة الخليجية الايرانية على الارض اللبنانية.
بعدما ظن البعض ان الطائفية والمحاصصة سيحافظان على استقرار الاوضاع والحيلولة دون حدوث الثورة تفاجأت النخب الحاكمة في لبنان ومعها العالم بانفجار احد اكبر الثورات العربية واكثرها سلمية ونضوجا واوسعها انتشارا. من طرابلس الى صيدا ومن زحلة الى النبطية وفي بيروت انطلق اللبنانيون مسلمون ومسيحيون شيعة وسنة رجال دين وفنانون وعمال طلاء واطباء رجال ونساء من كل المذاهب والملل مطالبين بصوت واحد “الشعب يريد اسقاط النظام” بكل تشكيلاته رئيسا ووزراء نوابا واحزابا وايا كانت انتماءاتهم وعلى حد تعبير المتظاهرين “كلن.. يعني كلن”.
الهبة اللبنانية جاءت على إثر إقدام الحكومة على قرار فرض رسوم ضريبية على خدمة “واتس اب”. هذه الخطوة كانت الشرارة التي اشعلت الشارع اللبناني المشبع بالغضب والاحباط. ففي الاشهر الاخيرة تسارع تدهور الاوضاع الاقتصادية وتردت اوضاع الخدمات وفشلت الحكومة في اطفاء الحرائق التي أتت على جزء من الثروة الحرجية وممتلكات الاهالي كل ذلك وسط استمرار مسلسل الضرائب وتداول قصص النهب والفساد وشائعات تقاسم العائلات المتنفذة واركان السلطة للمال العام.
الروح اللبنانية الحرة وجرأة الشعب وانتماء ابنائه بدت واضحة في المسيرات والاعتصامات التي اجتاحت المدن والساحات وتخللها الكثير من المشاهد التي تعبر عن حرقة الشعب ورفضه للواقع وحرصه على تصويب الاخطاء والخروج من دوامة الانقسامات التي اعاقت مسيرة البلاد وحالت دون حدوث التنمية واغرقت المجتمع في صراعات وديون وفوضى مهدت لنمو الفساد ونهب المقدرات وخصخصة السلطة لحساب عدد من القوى التي عطلت كل شيء لحساب حماية امتيازاتها وممارسة نشاطاتها وتنمية ثرواتها.
العالم العربي يكتشف مجددا قوة الشعب الكامنة والمتنحية. الثورات السابقة كانت نخبوية او اسرية او صراعا علنيا على السلطة بين الاحزاب والمكونات التي لا تملك تصورا للنهضة.غالبية المحاولات تم اختطافها من القوى الخارجية التي كانت تعمل على اجهاضها لحساب مصالح انظمة وتحالفات لا تريد لها النجاح. اليوم تبدو الثورة اللبنانية الاقرب الى النموذج الذي يحلم به المواطن العربي فهي تفتح الملفات وتفضح الترتيبات وتدعو الى المحاسبة وبناء سلطة جديدة تراعي الكرامة وتحترم الحقوق وتحقق العدالة وتحسن الخدمات وتفتح الآفاق للنهضة والتغيير.
في لبنان والكثير من البلدان العربية هناك اختراق صريح لحاجز الخوف فقد اكتشفت الجماهير لعبة اصرار الحكام على زرع الفرقة بين مكونات الشعب وتخويف الجماعات من بعضها البعض وتقديم القيادات نفسها على انها المخلص وحامية الحمى.
الافكار والاساليب والاستراتيجيات التقليدية لخلق الاحساس بالاهمية والضرورة لم تعد تقنع الاجيال الجديدة ولم تعد صالحة لتوفير الغطاء لسرقات ونهب من يتاجرون بالمخاوف التي زرعوها.
الشعوب العربية المحبطة تتابع بشغف وحب حركة الشعب اللبناني ومساعيه الجادة لبناء النهضة التي طال انتظارها. الغد
الغد