التل يكتب: من وهم الوعود إلى اقتصاد الأصول (2): الرد على النقد التقليدي
مدار الساعة ـ نشر في 2025/12/30 الساعة 23:47
في البداية، أتوجه بالشكر الجزيل لكل من تفضل بقراءة المقال السابق تحت عنوان "من وهم الوعود إلى اقتصاد الأصول: مدرسة الاقتصاد الإسلامي كحل جذري لأزمة الضمان الاجتماعي" وتفضل بتقديم نقده الموضوعي , كان معظم هذا النقد متسقاً مع إطار النقد الاقتصادي السائد، مما فتح الباب أمام حوار مثمر يستحق التوقف عنده والرد عليه بتعمق.
الحقيقة التي تظهر من خلال هذا الحوار النقدي الثري هي أننا إزاء صراع بين رؤيتين: رؤية ترى أن النظام القابل للإصلاح يحتاج فقط إلى تحسينات تقنية داخل إطاره الحالي، ورؤية أخرى تؤمن بأن طبيعة الأزمة تستدعي نقلة فلسفية وجوهرية.
النقد التقليدي الذي تلقيناه، رغم احترامي لصلابته المنطقية، يبدو لي وكأنه يحاول إنقاذ نموذج تجاوزته التحولات السكانية والاقتصادية الجذرية التي يشهدها عالمنا اليوم.
النقد التقليدي يدافع عن فكرة أن المشكلة إدارية وليست فلسفية، ويصر على أن نظام الدفع الفوري يمكن إصلاحه عبر تعديلات تقنية.
هذا الرأي يتجاهل حقيقة أن النظام نفسه صُمم في ظروف سكانية واقتصادية لم تعد موجودة, لقد تغيرت المعادلة الأساسية : من عالم كان فيه لكل متقاعد ثمانية عمال، إلى عالم يقترب فيه المعدل من عاملين لكل متقاعد. هذا ليس مجرد تغيير كمي، بل هو تحول نوعي يجعل النظام القديم أشبه ببناء هندسي صُمم لتحمل أوزان معينة ثم فُرضت عليه أوزان تفوق قدرته الإنشائية بأضعاف. الإصلاحات التقنية هنا تشبه محاولة ترميم شقوق في أساسات البناء بينما المشكلة في نوعية التصميم ذاته.
النقد التقليدي ينطلق من فرضية أن تحويل الضمان إلى صندوق استثماري يخلط بين نظام الحماية الاجتماعي ونظام الادخار الاستثماري , لكن هذا التمييز أصبح وهمياً في ظل النظام الحالي , فالنظام القائم لا يقدم "ضماناً" بالمعنى الحقيقي، بل يقدم وعوداً تعتمد على قدرة أجيال قادمة على الدفع ,وهو في هذا يشبه عقود التأمين التي تعد بتعويضات دون أن يكون لديها احتياطيات كافية.
الأكثر إثارة للقلق أن هذا النظام يحول العلاقة بين الأجيال من علاقة تضامن إلى علاقة دَين، حيث يصبح كل جيل مديناً للجيل الذي قبله، ودائناً على الجيل الذي بعده , هذه الحلقة المفرغة من الديون بين الأجيال هي أخطر ما في النظام الحالي.
النقد التقليدي يحذرنا من "تعريض المتقاعدين لمخاطر السوق"، وكأن النظام الحالي يقدم ملاذاً آمناً..!!
الحقيقة أن المتقاعدين في النظام الحالي معرضون لمخاطر أكبر، وإن كانت غير مرئية: خطر انهيار النظام نفسه، خطر التضخم الذي يأكل قيمة المعاشات الثابتة، خطر عجز الميزانيات الحكومية عن الوفاء بالوعود.
في النظام المقترح، المخاطر ظاهرة وواضحة ويمكن إدارتها عبر آليات التنويع وصناديق التثبيت , في النظام الحالي، المخاطر مخفية لكنها قاتلة، لأنها مخاطر وجودية للنظام ككل.
يزعم النقد التقليدي أن الأصول لا تحل المشكلة السكانية، لأن الأصول تحتاج إلى اقتصاد قوي ونمو مستمر , هذا القول يتجاهل أن الأصول المنتجة ليست نتيجة للنمو فحسب، بل هي محرك له, فاستثمار صندوق الضمان في البنية التحتية، والطاقة المتجددة، والقطاعات الإنتاجية، لا يدر عائداً فحسب، بل يخلق فرص عمل، ويرفع الإنتاجية، ويحفز النمو الاقتصادي , الأصول هنا ليست مجرد أدوات لجني العوائد، بل هي أدوات لخلق الثروة وتوسيع القاعدة الاقتصادية.
أما مخاوف تركز القوة الاقتصادية فتنطلق من افتراض أن النظام الجديد سيركز الثروة في يد جهة واحدة , لكن الحقيقة أن النظام الحالي هو الأكثر تركيزاً، حيث تجمع الأموال في خزينة مركزية وتصرف بقرارات إدارية وسياسية.
النظام المقترح، إذا صمم بشكل صحيح، سيكون أكثر توزيعاً، حيث يمتلك كل مشترك حصة واضحة يمكنه متابعة أدائها، وتدار الاستثمارات بواسطة مديرين محترفين تحت رقابة متعددة الطبقات الشفافية والمحاسبة هنا تكون أقوى بكثير من النظام الحالي البيروقراطي المعقد.
قضية العدالة الاجتماعية التي يثيرها النقد التقليدي تحتاج إلى إعادة نظر , فالنظام الحالي، رغم شعارات التضامن، يخلق ظلماً بين الأجيال يصعب تجاهله , جيل يدفع اشتراكات منخفضة ويحصل على معاشات سخية، بينما الأجيال القادمة مطالبة بدفع اشتراكات أعلى لتمويل وعود لم يقطعوها.
العدالة الحقيقية تقتضي أن يحصل كل جيل على ما يساهم به، مع وجود شبكة أمان للفئات الأضعف. النظام المقترح يمكن أن يحقق هذه العدالة بشكل أكثر وضوحاً ونزاهة.
حتى الخطة التجريبية المقترحة تتعرض للنقد، وكأن التجربة والاختبار منهجان غير علميين. لكن التاريخ الاقتصادي يعلمنا أن أي تحول جذري يحتاج إلى مرحلة تجريبية حذرة , التجربة المحدودة ليست ضماناً للنجاح، لكنها وسيلة لاكتشاف التحديات العملية واختبار الجدوى قبل التعميم , رفض التجربة يعني إما القفز إلى المجهول دون استعداد، أو التمسك بنظام متآكل بدعوى الخوف من التغيير.
النقد التقليدي في جوهره يدافع عن استمرارية نموذج اقتصادي أثبت عجزه عن مواكبة التحولات الكبرى , إصلاحات مثل رفع سن التقاعد وزيادة الاشتراكات ليست حلولاً جذرية، بل مؤشرات على أن النظام يعاني من علل هيكلية , هي تشبه محاولة إنقاذ سفينة تغرق بصب الماء منها بدل إصلاح الثقب في قاعها.
التحول إلى نظام قائم على الملكية في الأصول الإنتاجية ليس خياراً بين المخاطرة والأمان، بل هو خيار بين مخاطرة منظمة يمكن إدارتها، وكارثة محققة يصعب تجنبها , بين نظام يعترف بالحقائق الاقتصادية الجديدة ويبني عليها، ونظام يستمر في إنكار هذه الحقائق حتى ينهار.
الخلاصة التي نصل إليها من هذا الحوار النقدي الثري هي أن النقاش حول الضمان الاجتماعي تجاوز مرحلة "كيف نصلح النظام؟" إلى مرحلة "أي نظام نريد للمستقبل؟".
النظام التقليدي، رغم مزايا تاريخية، أصبح عاجزاً عن مواجهة تحدي الشيخوخة السكانية وتراجع النمو الاقتصادي , الاستمرار في الدفاع عنه ليس وفاءً لمكاسب اجتماعية، بل تمسكاً بوهم لم يعد مقبولاً.
المستقبل يحتاج إلى شجاعة فكرية للاعتراف بأن بعض النماذج، عندما تفشل، تحتاج ليس إلى إصلاح، بل إلى إعادة ابتكار , والوقت مناسب الآن لهذه الخطوة، قبل أن يصبح الانهيار خيارنا الوحيد.
الحقيقة التي تظهر من خلال هذا الحوار النقدي الثري هي أننا إزاء صراع بين رؤيتين: رؤية ترى أن النظام القابل للإصلاح يحتاج فقط إلى تحسينات تقنية داخل إطاره الحالي، ورؤية أخرى تؤمن بأن طبيعة الأزمة تستدعي نقلة فلسفية وجوهرية.
النقد التقليدي الذي تلقيناه، رغم احترامي لصلابته المنطقية، يبدو لي وكأنه يحاول إنقاذ نموذج تجاوزته التحولات السكانية والاقتصادية الجذرية التي يشهدها عالمنا اليوم.
النقد التقليدي يدافع عن فكرة أن المشكلة إدارية وليست فلسفية، ويصر على أن نظام الدفع الفوري يمكن إصلاحه عبر تعديلات تقنية.
هذا الرأي يتجاهل حقيقة أن النظام نفسه صُمم في ظروف سكانية واقتصادية لم تعد موجودة, لقد تغيرت المعادلة الأساسية : من عالم كان فيه لكل متقاعد ثمانية عمال، إلى عالم يقترب فيه المعدل من عاملين لكل متقاعد. هذا ليس مجرد تغيير كمي، بل هو تحول نوعي يجعل النظام القديم أشبه ببناء هندسي صُمم لتحمل أوزان معينة ثم فُرضت عليه أوزان تفوق قدرته الإنشائية بأضعاف. الإصلاحات التقنية هنا تشبه محاولة ترميم شقوق في أساسات البناء بينما المشكلة في نوعية التصميم ذاته.
النقد التقليدي ينطلق من فرضية أن تحويل الضمان إلى صندوق استثماري يخلط بين نظام الحماية الاجتماعي ونظام الادخار الاستثماري , لكن هذا التمييز أصبح وهمياً في ظل النظام الحالي , فالنظام القائم لا يقدم "ضماناً" بالمعنى الحقيقي، بل يقدم وعوداً تعتمد على قدرة أجيال قادمة على الدفع ,وهو في هذا يشبه عقود التأمين التي تعد بتعويضات دون أن يكون لديها احتياطيات كافية.
الأكثر إثارة للقلق أن هذا النظام يحول العلاقة بين الأجيال من علاقة تضامن إلى علاقة دَين، حيث يصبح كل جيل مديناً للجيل الذي قبله، ودائناً على الجيل الذي بعده , هذه الحلقة المفرغة من الديون بين الأجيال هي أخطر ما في النظام الحالي.
النقد التقليدي يحذرنا من "تعريض المتقاعدين لمخاطر السوق"، وكأن النظام الحالي يقدم ملاذاً آمناً..!!
الحقيقة أن المتقاعدين في النظام الحالي معرضون لمخاطر أكبر، وإن كانت غير مرئية: خطر انهيار النظام نفسه، خطر التضخم الذي يأكل قيمة المعاشات الثابتة، خطر عجز الميزانيات الحكومية عن الوفاء بالوعود.
في النظام المقترح، المخاطر ظاهرة وواضحة ويمكن إدارتها عبر آليات التنويع وصناديق التثبيت , في النظام الحالي، المخاطر مخفية لكنها قاتلة، لأنها مخاطر وجودية للنظام ككل.
يزعم النقد التقليدي أن الأصول لا تحل المشكلة السكانية، لأن الأصول تحتاج إلى اقتصاد قوي ونمو مستمر , هذا القول يتجاهل أن الأصول المنتجة ليست نتيجة للنمو فحسب، بل هي محرك له, فاستثمار صندوق الضمان في البنية التحتية، والطاقة المتجددة، والقطاعات الإنتاجية، لا يدر عائداً فحسب، بل يخلق فرص عمل، ويرفع الإنتاجية، ويحفز النمو الاقتصادي , الأصول هنا ليست مجرد أدوات لجني العوائد، بل هي أدوات لخلق الثروة وتوسيع القاعدة الاقتصادية.
أما مخاوف تركز القوة الاقتصادية فتنطلق من افتراض أن النظام الجديد سيركز الثروة في يد جهة واحدة , لكن الحقيقة أن النظام الحالي هو الأكثر تركيزاً، حيث تجمع الأموال في خزينة مركزية وتصرف بقرارات إدارية وسياسية.
النظام المقترح، إذا صمم بشكل صحيح، سيكون أكثر توزيعاً، حيث يمتلك كل مشترك حصة واضحة يمكنه متابعة أدائها، وتدار الاستثمارات بواسطة مديرين محترفين تحت رقابة متعددة الطبقات الشفافية والمحاسبة هنا تكون أقوى بكثير من النظام الحالي البيروقراطي المعقد.
قضية العدالة الاجتماعية التي يثيرها النقد التقليدي تحتاج إلى إعادة نظر , فالنظام الحالي، رغم شعارات التضامن، يخلق ظلماً بين الأجيال يصعب تجاهله , جيل يدفع اشتراكات منخفضة ويحصل على معاشات سخية، بينما الأجيال القادمة مطالبة بدفع اشتراكات أعلى لتمويل وعود لم يقطعوها.
العدالة الحقيقية تقتضي أن يحصل كل جيل على ما يساهم به، مع وجود شبكة أمان للفئات الأضعف. النظام المقترح يمكن أن يحقق هذه العدالة بشكل أكثر وضوحاً ونزاهة.
حتى الخطة التجريبية المقترحة تتعرض للنقد، وكأن التجربة والاختبار منهجان غير علميين. لكن التاريخ الاقتصادي يعلمنا أن أي تحول جذري يحتاج إلى مرحلة تجريبية حذرة , التجربة المحدودة ليست ضماناً للنجاح، لكنها وسيلة لاكتشاف التحديات العملية واختبار الجدوى قبل التعميم , رفض التجربة يعني إما القفز إلى المجهول دون استعداد، أو التمسك بنظام متآكل بدعوى الخوف من التغيير.
النقد التقليدي في جوهره يدافع عن استمرارية نموذج اقتصادي أثبت عجزه عن مواكبة التحولات الكبرى , إصلاحات مثل رفع سن التقاعد وزيادة الاشتراكات ليست حلولاً جذرية، بل مؤشرات على أن النظام يعاني من علل هيكلية , هي تشبه محاولة إنقاذ سفينة تغرق بصب الماء منها بدل إصلاح الثقب في قاعها.
التحول إلى نظام قائم على الملكية في الأصول الإنتاجية ليس خياراً بين المخاطرة والأمان، بل هو خيار بين مخاطرة منظمة يمكن إدارتها، وكارثة محققة يصعب تجنبها , بين نظام يعترف بالحقائق الاقتصادية الجديدة ويبني عليها، ونظام يستمر في إنكار هذه الحقائق حتى ينهار.
الخلاصة التي نصل إليها من هذا الحوار النقدي الثري هي أن النقاش حول الضمان الاجتماعي تجاوز مرحلة "كيف نصلح النظام؟" إلى مرحلة "أي نظام نريد للمستقبل؟".
النظام التقليدي، رغم مزايا تاريخية، أصبح عاجزاً عن مواجهة تحدي الشيخوخة السكانية وتراجع النمو الاقتصادي , الاستمرار في الدفاع عنه ليس وفاءً لمكاسب اجتماعية، بل تمسكاً بوهم لم يعد مقبولاً.
المستقبل يحتاج إلى شجاعة فكرية للاعتراف بأن بعض النماذج، عندما تفشل، تحتاج ليس إلى إصلاح، بل إلى إعادة ابتكار , والوقت مناسب الآن لهذه الخطوة، قبل أن يصبح الانهيار خيارنا الوحيد.
مدار الساعة ـ نشر في 2025/12/30 الساعة 23:47