الضمان الاجتماعي: هل يُصلح القانون ما أفسده النموذج الاقتصادي؟!
مدار الساعة ـ نشر في 2025/12/21 الساعة 08:26
في الثالث عشر من كانون الأول، أعلنت المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي الأردني نتائج دراستها الاكتوارية الحادية عشرة، محذرةً من تحديات تلوح في الأفق.
احتفت النتائج بوضع مالي "جيد جدًا" للصناديق الحالية، رسمت خطوطًا حمراء عند عامي 2030 و2038، حيث تبدأ الفجوة بين الإيرادات والنفقات بالتضخم. التركيز الرسمي انصب على ضرورة تعديلات تشريعية لمعالجة "التقاعد المبكر" و"التهرب التأميني".
لكن قراءة متعمقة للبيانات والواقع الاجتماعي تكشف حقيقة أكثر قتامة: أزمة الضمان الاجتماعي ليست مشكلة فنية معزولة، بل هي عَرَض مرضي لاقتصاد فشل في تحقيق أبسط شروط الاستدامة المجتمعية. إنها الوجه المالي لأزمة وجودية تُهدد نسيج المجتمع الأردني نفسه.
تؤكد الدراسة أن الصناديق التأمينية سليمة وقادرة على الوفاء بالتزاماتها، مع تركيز التحدي الأكبر على صندوق "تأمين الشيخوخة والعجز والوفاة", بينما تكشف النتائج أن نقطة التعادل الأولى ستكون في عام 2030، حين تتساوى الإيرادات المباشرة من اشتراكات العاملين مع النفقات على المتقاعدين، مع نقطة التعادل الثانية المتوقعة في عام 2038، حين تصبح الإيرادات الكلية غير كافية لتغطية النفقات إذا لم يتحسن العائد الاستثماري.
السبب الرئيسي الذي حددته المؤسسة هو "ظاهرة التقاعد المبكر"، حيث يشكل المتقاعدون مبكرًا 64% من إجمالي المتقاعدين، وتبلغ كلفتهم 61% من الفاتورة التقاعدية, كما أشارت إلى التهرب التأميني، حيث أن 22.8% من العاملين في القطاع المنظم خارج المظلة, الحل المُقترح هو تعديلات تشريعية و"حوار وطني" تحت مظلة المجلس الاقتصادي والاجتماعي لترحيل نقاط التعادل، مع الالتزام بثلاثة مبادئ: استدامة المؤسسة، تحسين أوضاع ذوي الدخل المنخفض، وعدم المساس بحقوق المؤمن عليهم الحاليين.
لكن وراء هذه الأرقام الفنية، تكمن كوارث ديموغرافية واجتماعية تُغذي الأزمة وتجعل الإصلاحات التقنية وحدها عديمة الجدوى على المدى الطويل.
الدراسة تذكر سببًا جوهريًا بعبارة مختصرة: "الضغوط الديموغرافية"، دون تفصيل للكارثة التي تمثلها، الضغط الأول يتمثل في تراجع الداخلين لسوق العمل، وسبب أساسي في ذلك هو البطالة المرتفعة بين الشباب، خصوصًا الخريجين , شاب عاطل عن العمل لا يدفع اشتراكات، وهو مستقبَل مهدَّد بالفقر، وبالتالي غير قادر على المساهمة في تمويل نظام التقاعد الحالي أو الاستفادة منه بشكل لائق في المستقبل.
الضغط الثاني هو ارتفاع عدد مَن يبلغون سن التقاعد، وهي نتيجة طبيعية لارتفاع متوسط العمر المتوقع، لكنها تتحول إلى عبء غير محتمل بسبب الضغط الثالث.
الضغط الثالث، وهو الكارثة الصامتة، يتمثل في انهيار الخصوبة نتيجة انهيار القدرة على تكوين الأسر, هنا تكمن الحلقة المفرغة: البطالة وغلاء المعيشة من سكن ومعيشة وتكاليف أولية للزواج تؤدي إلى تأخر قسري لسن الزواج لدى الجنسين، وصولًا إلى ما يُسمى اجتماعيًا "العنوسة الاقتصادية" , هذا التأخر يؤدي حتميًا إلى تقلص فترة الخصوبة لدى المرأة، وبالتالي انخفاض حاد في معدل المواليد, النتيجة هي جيل قادم من الشباب، الذين سيدخلون سوق العمل بعد عقدين، أقل عددًا بشكل كبير, بمعنى آخر، نحن نزرع اليوم مجتمعًا يشيخ بسرعة وينكمش عدديًا، حيث سيتحمل كل شاب مستقبلي عبء إعالة عدد متزايد من المتقاعدين، بنسبة قد تصبح كارثية تصل إلى شاب واحد يعيل متقاعدين اثنين أو أكثر.
إذن، نحن أمام معادلة مرعبة: المشكلة الظاهرة الفنية التي تمثلها صندوق تقاعد مهدد بعدم الاستدامة بسبب تقاعد مبكر وتهرب، والمشكلة الجذرية الوجودية المتمثلة في اقتصاد عاجز عن خلق فرص عمل كريمة، ونمو لا يُولد فرصًا للشباب، ومنظومة معيشية تُحبط تكوين الأسر وتقضي على المستقبل الديموغرافي.
العلاج الترقيعي المتمثل في الإصلاح التشريعي للضمان قد يؤخر الانهيار الفني لسنوات قليلة، ولكنه عاجز تمامًا عن مواجهة الإعصار الديموغرافي القادم , يمكنك تعديل قانون التقاعد المبكر، ولكن ماذا يفعل شاب في الخامسة والعشرين عاطل عن العمل ولا يرى مستقبلًا يسمح له بالزواج؟!
إنه ليس مهتمًا بسن تقاعده، بل ببداية دخله, يمكنك توسيع مظلة الشمول، ولكن كيف تشمل قطاعًا غير منظم يعمل أساسًا على هامش البقاء وبأجور لا تسمح بالاشتراك الجاد؟!
الحوار الوطني حول الضمان الاجتماعي هو فرصة تاريخية، ولكنها ستكون مهزلة خطيرة إذا اقتصر على النقاش الفني بين خبراء الاكتوارة والمشرعين.
يجب أن يكون هذا الحوار صيحة إنذار لإعادة تعريف الأولويات الوطنية, لا يمكن إنقاذ نظام التقاعد دون إنقاذ القدرة الاقتصادية للشباب على العمل وتكوين الأسرة.
هذا يتطلب جرأة لنقاش سياسات اقتصادية جريئة: تحويل النمو إلى خلق فرص عمل حقيقية، سياسات إسكان داعمة للشباب، ربط التعليم باحتياجات سوق العمل المنتج، ومواجهة غول الغلاء الذي يفترس أحلام جيل كامل.
الضمان الاجتماعي الناجح هو نتاج طبيعي لمجتمع ناجح: مجتمع يعمل شبابه، ويُشكل أسرًا في وقت طبيعي، ويُنظر إلى المستقبل بثقة, بينما النظام الحالي، بتركيبه الاقتصادي والسياسات المرافقة، ينتج العكس تمامًا: شبابًا محبطًا، وأسرًا متأخرة أو غير متكونة، ومستقبلاً ديموغرافيًا قاتمًا.
السؤال الذي يجب أن يُطرَح في الحوار الوطني ليس فقط "كيف نؤمن نقاط التعادل"؟!، بل "كيف نبني اقتصادًا يحفظ التوازن الديموغرافي ويضمن مستقبلًا للشباب قبل أن يطالبهم بتمويل تقاعد غير مضمون" ؟!.
الإجابة على هذا السؤال هي الضمان الاجتماعي الحقيقي.
احتفت النتائج بوضع مالي "جيد جدًا" للصناديق الحالية، رسمت خطوطًا حمراء عند عامي 2030 و2038، حيث تبدأ الفجوة بين الإيرادات والنفقات بالتضخم. التركيز الرسمي انصب على ضرورة تعديلات تشريعية لمعالجة "التقاعد المبكر" و"التهرب التأميني".
لكن قراءة متعمقة للبيانات والواقع الاجتماعي تكشف حقيقة أكثر قتامة: أزمة الضمان الاجتماعي ليست مشكلة فنية معزولة، بل هي عَرَض مرضي لاقتصاد فشل في تحقيق أبسط شروط الاستدامة المجتمعية. إنها الوجه المالي لأزمة وجودية تُهدد نسيج المجتمع الأردني نفسه.
تؤكد الدراسة أن الصناديق التأمينية سليمة وقادرة على الوفاء بالتزاماتها، مع تركيز التحدي الأكبر على صندوق "تأمين الشيخوخة والعجز والوفاة", بينما تكشف النتائج أن نقطة التعادل الأولى ستكون في عام 2030، حين تتساوى الإيرادات المباشرة من اشتراكات العاملين مع النفقات على المتقاعدين، مع نقطة التعادل الثانية المتوقعة في عام 2038، حين تصبح الإيرادات الكلية غير كافية لتغطية النفقات إذا لم يتحسن العائد الاستثماري.
السبب الرئيسي الذي حددته المؤسسة هو "ظاهرة التقاعد المبكر"، حيث يشكل المتقاعدون مبكرًا 64% من إجمالي المتقاعدين، وتبلغ كلفتهم 61% من الفاتورة التقاعدية, كما أشارت إلى التهرب التأميني، حيث أن 22.8% من العاملين في القطاع المنظم خارج المظلة, الحل المُقترح هو تعديلات تشريعية و"حوار وطني" تحت مظلة المجلس الاقتصادي والاجتماعي لترحيل نقاط التعادل، مع الالتزام بثلاثة مبادئ: استدامة المؤسسة، تحسين أوضاع ذوي الدخل المنخفض، وعدم المساس بحقوق المؤمن عليهم الحاليين.
لكن وراء هذه الأرقام الفنية، تكمن كوارث ديموغرافية واجتماعية تُغذي الأزمة وتجعل الإصلاحات التقنية وحدها عديمة الجدوى على المدى الطويل.
الدراسة تذكر سببًا جوهريًا بعبارة مختصرة: "الضغوط الديموغرافية"، دون تفصيل للكارثة التي تمثلها، الضغط الأول يتمثل في تراجع الداخلين لسوق العمل، وسبب أساسي في ذلك هو البطالة المرتفعة بين الشباب، خصوصًا الخريجين , شاب عاطل عن العمل لا يدفع اشتراكات، وهو مستقبَل مهدَّد بالفقر، وبالتالي غير قادر على المساهمة في تمويل نظام التقاعد الحالي أو الاستفادة منه بشكل لائق في المستقبل.
الضغط الثاني هو ارتفاع عدد مَن يبلغون سن التقاعد، وهي نتيجة طبيعية لارتفاع متوسط العمر المتوقع، لكنها تتحول إلى عبء غير محتمل بسبب الضغط الثالث.
الضغط الثالث، وهو الكارثة الصامتة، يتمثل في انهيار الخصوبة نتيجة انهيار القدرة على تكوين الأسر, هنا تكمن الحلقة المفرغة: البطالة وغلاء المعيشة من سكن ومعيشة وتكاليف أولية للزواج تؤدي إلى تأخر قسري لسن الزواج لدى الجنسين، وصولًا إلى ما يُسمى اجتماعيًا "العنوسة الاقتصادية" , هذا التأخر يؤدي حتميًا إلى تقلص فترة الخصوبة لدى المرأة، وبالتالي انخفاض حاد في معدل المواليد, النتيجة هي جيل قادم من الشباب، الذين سيدخلون سوق العمل بعد عقدين، أقل عددًا بشكل كبير, بمعنى آخر، نحن نزرع اليوم مجتمعًا يشيخ بسرعة وينكمش عدديًا، حيث سيتحمل كل شاب مستقبلي عبء إعالة عدد متزايد من المتقاعدين، بنسبة قد تصبح كارثية تصل إلى شاب واحد يعيل متقاعدين اثنين أو أكثر.
إذن، نحن أمام معادلة مرعبة: المشكلة الظاهرة الفنية التي تمثلها صندوق تقاعد مهدد بعدم الاستدامة بسبب تقاعد مبكر وتهرب، والمشكلة الجذرية الوجودية المتمثلة في اقتصاد عاجز عن خلق فرص عمل كريمة، ونمو لا يُولد فرصًا للشباب، ومنظومة معيشية تُحبط تكوين الأسر وتقضي على المستقبل الديموغرافي.
العلاج الترقيعي المتمثل في الإصلاح التشريعي للضمان قد يؤخر الانهيار الفني لسنوات قليلة، ولكنه عاجز تمامًا عن مواجهة الإعصار الديموغرافي القادم , يمكنك تعديل قانون التقاعد المبكر، ولكن ماذا يفعل شاب في الخامسة والعشرين عاطل عن العمل ولا يرى مستقبلًا يسمح له بالزواج؟!
إنه ليس مهتمًا بسن تقاعده، بل ببداية دخله, يمكنك توسيع مظلة الشمول، ولكن كيف تشمل قطاعًا غير منظم يعمل أساسًا على هامش البقاء وبأجور لا تسمح بالاشتراك الجاد؟!
الحوار الوطني حول الضمان الاجتماعي هو فرصة تاريخية، ولكنها ستكون مهزلة خطيرة إذا اقتصر على النقاش الفني بين خبراء الاكتوارة والمشرعين.
يجب أن يكون هذا الحوار صيحة إنذار لإعادة تعريف الأولويات الوطنية, لا يمكن إنقاذ نظام التقاعد دون إنقاذ القدرة الاقتصادية للشباب على العمل وتكوين الأسرة.
هذا يتطلب جرأة لنقاش سياسات اقتصادية جريئة: تحويل النمو إلى خلق فرص عمل حقيقية، سياسات إسكان داعمة للشباب، ربط التعليم باحتياجات سوق العمل المنتج، ومواجهة غول الغلاء الذي يفترس أحلام جيل كامل.
الضمان الاجتماعي الناجح هو نتاج طبيعي لمجتمع ناجح: مجتمع يعمل شبابه، ويُشكل أسرًا في وقت طبيعي، ويُنظر إلى المستقبل بثقة, بينما النظام الحالي، بتركيبه الاقتصادي والسياسات المرافقة، ينتج العكس تمامًا: شبابًا محبطًا، وأسرًا متأخرة أو غير متكونة، ومستقبلاً ديموغرافيًا قاتمًا.
السؤال الذي يجب أن يُطرَح في الحوار الوطني ليس فقط "كيف نؤمن نقاط التعادل"؟!، بل "كيف نبني اقتصادًا يحفظ التوازن الديموغرافي ويضمن مستقبلًا للشباب قبل أن يطالبهم بتمويل تقاعد غير مضمون" ؟!.
الإجابة على هذا السؤال هي الضمان الاجتماعي الحقيقي.
مدار الساعة ـ نشر في 2025/12/21 الساعة 08:26