'الناتو الشرق أوسطي'.. والأمن الوطني الأردني
اتّصل بي أكثر من صديق وسياسي أردني، بعد مقالتي الأسبوع الفائت، بعنوان "زيارة بايدن والحسابات الأردنية" ("العربي الجديد" 26/6/2022)، متسائلين أو مشكّكين في ما كتبته عن اختزال الإعلام العربي، ومنه بعض الإعلام الأردني للأسف، تصريحات الملك عبد الله الثاني لشبكة سي إن بي سي؛ إذ بدا الأمر وكأنّ الملك يؤيد إقامة ناتو شرق أوسطي (عملياً عربي - إسرائيلي) في مواجهة إيران. والأغرب أنّ بعض الإعلاميين الأردنيين بدأ يدافع عن الفكرة، من دون أن يعود إلى كلام الملك، أو حتى يفكّر عملياً بأبعادها وتداعياتها.
لاحقاً، وبعد إدراك حجم الضرر الكبير الذي حدث في هذه القراءة المختزلة، بدأت مقالات وتقارير إعلامية محلية تحاول تصحيح ذلك، إلى أن جاء تصريح وزير الخارجية، أيمن الصفدي، لقناة الجزيرة بعد أيامٍ قليلة ينفي فيه هذا الفهم، أو حتى وجود مثل هذا العرض جملةً وتفصيلاً، لكن بعدما تلقفه الإعلام المحلي وتبنّته وسائل إعلام غربية وعربية وإسرائيلية.
إذا تجاوزنا الجدل السياسي والإعلامي، من الضروري أن نتساءل: هل من مصلحة الأردن اليوم الدخول في حلف عربي - إسرائيلي (إطلاق اسم الناتو عليه مجازاً، لأنّه لا يمثل امتداداً لحلف الناتو، لكنّ المقصود أنّها فكرة مستوحاة من نظرية "ناتو" بصورة إقليمية لمواجهة إيران)؟... للجواب عن هذا السؤال، من الضروري أن نعود إلى أساس المشروع، الذي انبثق في حقبة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، خلال "شهر العسل" بين حكومة نتنياهو وبعض الدول العربية، وما تمخّض عنها من اتفاقيات تطبيع. والفكرة الجوهرية فيه تقوم على أساس ما اعتُبر خطراً وتهديداً إيرانيا للدول العربية، ومحاولة البحث عن تحالفاتٍ إقليمية لمواجهة هذا "الخطر"، بعدما وصل نفوذ إيران الإقليمي إلى العراق وسورية واليمن ولبنان، مصحوباً بالاتّكاء على "العامل الشيعي" في الدول العربية الأخرى امتدادا له، وبالتالي، أصبح الأمر، في نظر حكومات عربية، بمثابة حربٍ على أكثر من جبهة ساخنة وباردة، خارجياً وداخلياً.
ما عزّز هذه القناعة، لدى دول عربية خليجية، بالإضافة إلى النفوذ الإيراني المتصاعد، والخشية من الهيمنة الإيرانية على الخليج وتهديد أمن هذه الدول ومصالحها، هو الشعور بالتراجع الأميركي في المنطقة، وتخلّي الإدارات الأميركية عن حلفائها، خصوصا خلال مرحلة الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، الذي عقد اتفاقية مع إيران، وظهر، من تصريحاته ومواقفه، عدم رغبته باستمرار الصفقة التقليدية بين الولايات المتحدة وحلفائها العرب بمقايضة النفط والمصالح الاقتصادية بالاستقرار والحماية الأمنية.
صحيحٌ أنّ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، جاء بمقاربة مغايرة تماماً، ورمّم الصفقة التاريخية، لكن أيضاً بكلفة مالية عالية وسافرة، وفي الوقت نفسه، جاء بفكرة "السلام الإقليمي"، الذي كان يعني، ضمنيّاً، عقد تحالف تاريخي عربي – إسرائيلي، وتطبيع العلاقات العربية – الإسرائيلية، من دون التركيز على القضية الفلسطينية بوصفها نقطة الارتكاز، وهي الفكرة التي ولّدت "الاتفاقيات الإبراهيمية" والتطبيع العلني وشبه العلني، وأدّت إلى تطوير مشروع التحالف العربي - الإسرائيلي العسكري لمواجهة إيران، بعدما انسحب ترامب من الاتفاق النووي مع إيران.
على الجهة المقابلة، التقت هذه السياسات الأميركية الترامبية مع صعود الشعور بالتهديد الإيراني لدى نخب القرار في دول خليجية، ووجدت لدى نخبةٍ من السياسيين والمثقفين في عديد من هذه الدول قبولاً، وجرى الإفصاح عنها بصورة جلية على ألسنة بعضهم، ممن أخذوا ينقدون فكرة مركزية القضية الفلسطينية، ويعيدون تفكيك العلاقات العربية - الإسرائيلية على هذا الأساس، وانتهى الأمر بوجود نخبةٍ تدفع نحو التطبيع مع إسرائيل وإعادة هيكلة العلاقات الإقليمية لجعل إيران هي العدو ومصدر التهديد، وليست إسرائيل.
على هذه القاعدة، جرى غزل تصوّرات نخبوية جديدة (كان الإفصاح عنها سابقاً يعدّ كفراً في العالم العربي) تقول إنّ مصالح هذه الدول وأمنها أهم من أي شيء آخر، وما يهدّدها عملياً هو إيران، بينما إسرائيل حليفٌ يمكن الاشتراك معه في مواجهة النفوذ الإيراني، بخاصة بعد ما ظهر من تراجع اهتمام أميركي في منطقة الشرق الأوسط في الحدّ الأدنى، أو استعداد أميركي لعقد صفقة مع إيران حدّا أعلى، تراه عديد من هذه الحكومات بمثابة انقلاب أميركي على المصالح المشتركة، فلماذا لا تكون إسرائيل بمثابة قوة حماية وحليف بديل؟!
بالرغم من خروج ترامب من البيت الأبيض، فإنّ صهره جاريد كوشنير بقي في المنطقة، ولم ييأس ولم يتخلَّ عن مشروع التطبيع، وعن إنهاء القضية الفلسطينية وتعزيز الاتفاقيات الإبراهيمية (بالإضافة إلى مكاسبه الشخصية الاقتصادية)، حتى وقعت الحرب الروسية – الأوكرانية، ووجد الرئيس الأميركي، جو بايدن، نفسه في مأزق خطير مع أزمة الطاقة، واضطرّ أن يلحس كلامه في حملته الانتخابية، ليعود إلى المنطقة في منتصف الشهر الحالي (يوليو/ تموز)، لإقناع السعودية المتململة من زيادة إنتاج النفط، وهو أمر بالتأكيد لن يكون بلا مقابل، بخاصة أنّه تزامن مع تعثّر المفاوضات مع إيران بخصوص الاتفاق النووي، التي لم تعد أولوية مثلما هي مسألة الطاقة.
بالعودة إلى الموقف الأردني؛ الذي تحفّظ على صفقة القرن، ورفض نقل السفارة الأميركية إلى القدس، ولم يرحّب بالاتفاقيات الإبراهيمية خلال حقبة ترامب، فإنّ عمّان لا ترتبط، بالضرورة، بعلاقات ودّية مع طهران، منذ الثورة الخمينية، وحالياً تشعر بالقلق من وجود مليشيات مؤيدة لإيران على حدودها الشمالية، ومن القناعة في المملكة أنّ هناك دوراً إيرانياً في إحباط بناء مصالح اقتصادية مشتركة مع العراق، ذلك كلّه صحيح، لكنّه لا يمثّل لدى الأردن خطراً أو تهديداً جوهرياً مثلما هي الحال بالنسبة لفكرة إلغاء مركزية القضية الفلسطينية، واتباع مشروع كوشنير، الغائب الحاضر، في إنهاء حلّ الدولتين، ما يعني زيادة التهديد الاستراتيجي للأمن الوطني الأردني، سواء على صعيد ما يحدُث في الضفة الغربية أو حتى المعادلة الداخلية الأردنية المرتبطة جوهرياً في القضية الفلسطينية.
جواب الملك عبد الله الثاني (في مقابلة سي إن بي سي) كان بمثابة "لا" ديبلوماسية، لأنّ هذا المشروع (التحالف العربي - الإسرائيلي) يصطدم بالمصالح الوطنية الأردنية، ويتعارض مع الأمن الوطني الأردني، ومع الرواية الديبلوماسية التي تؤكّد على مركزية القضية من جهة، لكنّه (الرد الملكي) يتجنب الارتطام أيضاً بما يجري بين حلفاء عرب للأردن وإسرائيل، عشية زيارة بايدن المنطقة في أجواء مشحونة بالتوتر والصراع والأزمات والشكوك.