انتخابات نواب الأردن 2024 أخبار الأردن اقتصاديات دوليات جامعات وفيات برلمانيات وظائف للأردنيين أحزاب رياضة مقالات مقالات مختارة شهادة جاهات واعراس الموقف مناسبات مجتمع دين اخبار خفيفة ثقافة سياحة الأسرة

حوار على رصيف الشعر

مدار الساعة,مقالات
مدار الساعة ـ نشر في 2019/08/27 الساعة 07:45
حجم الخط

بقلم: حسن محمود الشقيرات

على وقع خطى متعبة، وبأنفاس لاهثة، قالت معلمتي : أيها المغترب عن ذاته، هناك ثمة رصيف فدعنا ننل عليه قسطاً من الراحة. فأجبتها وأنا لذلك منتظر : أي راحة تقصدين؟ أراحة النفس أم البدن، راحة الروح أم العقل؟ فقالت : لعلّها تكون لكل ذلك. فقلت لها:

الروحُ مُتْعَبَةٌ والقلبُ متبولُ والنفسُ حرّى والعقلُ مشغولُ

وراحتي في الأرض صعب منالها لاحلَّ عندي غير الموت مقبولُ

فَزَفَرَتْ زفرة حارقة ، وقالت:

يا صاحبَ الهمِّ نَحِّ الهمومَ وعالِجَنْ فالليل مندحر والصبح لا بد ينبلج

وأتبعت قائلة: لم كل هذا الهم الذي تحمله في صدرك، وتختزنه في ذاتك؟فقلت لها: ألا ترين ما يحيط بنا من مآسٍ وهموم؟ وأنتِ تعرفين فيم سلوتي وراحتي. ولكن أين أجدها؟

فقالت: تجدها في الصبر. وهيا بنا لذاك المقعد، وبينما نحن سائران إذ التفتت لي قائلة : هذا رصيف الشعر.

وبدهشة واستغراب سألتها: ماذا؟ كيف؟ ............

قالت: هذه اللافتة كُتِب عليها اسمه، ولكن اجلس نتحدَّث.

أخذ كل منا مكانه على المقعد ، وبعد أن هدأت الأنفاس قالت: ها نحن على رصيف الشعر نلتقي، وأعلم أنك من هواته ومحبيه، فما هو الشعر عندك؟

فقلت لها : الشعر هو الشعور الإنساني الطاغي على النفس، وهو المُعَبِّرالحقيقي عن الأحاسيس، ألا ترين أن حروفه هي ذاتها حروف الشعور، ثم ألا ترين أنها ذاتها حروف العرش؛ ذلك أنه الملك المتوّج على ضروب الأدب، الشعر هو الأدب وهو الفن.... وهنا قاطعتني قائلة : كيف يكون الشعر فنّاً؟ فقلت: إذا كان الرسّام يختزن صورة في ذهنه ثم ينقلها إلى خارج ذاته بريشته وألوانه، فالشاعر يختزن في ذهنه كثيراً من المشاهد ينقلها بحروفه وكلماته، والشعر عندي أقوى من الرسم تعبيراً، وأشد تأثيراً، فالشعر يقرأه القارئ الأصم، ويسمعه الأمي الضرير، ويطربان له، والصورة لا يمكن أن يعرفها إلا من يراها.

ألا ترين أن الشعر سهل الانتشار واسعه، واللوحة المرسومة حبيسة جدارها، لن تدركها إلا بالمعاينة.

قالت: أعلم أني أقاطعك كثيراً فأستميحك عذراً، ولكن ما هي الميزة الأكثر بروزاً للشعر؟

أجبتها: الشعر ميزة بذاته ، فهو الخفيف على النفس، السهل على السمع ، السريع إلى القلب، المنطبع في الذاكرة، بقليل الألفاظ يعبِّر عن كثير المعاني، قادر على التحول ، إذ يمكن أن يتحوّل بيت الشعر لنص نثري تجعل منه رواية ، وموعظة وحكمة، كما تترنَّم به فيستحيل أغنية تطرب صاحب الذائقة، فما تطاولت الأعناق إلا ببيت مديح، و ما أرغم الأنوفَ كبيت هجاء، وما اعتصرت الدموع دماً إلا بالرثاء، وما هاجت الإبل إلا بالحداء، وما شنّفت الأسماعَ أغنيةٌ إلا كان الشعر أصلها ومعدنها.

الشعر هو الفن الوحيد الذي بحضرته تحسّ ذاتك. ولن يخلو بيت شعر (تراه) من إحدى حالتين: أن تتمنى لو عشته واقعاً، أو تجده يعبّر عن ذاتك وما بداخلك، وكأن القائل يتحدث عنك. فلو أتينا على قول الشنفرى:

وأستف ترب الأرض كي لا يرى له عليّ من الطول امرؤٌ متطول

لوجدنا كل حرٍّ كريم النفس إذا قرأه ألفاه يعبّر عمّا بداخله ويتحدّث عما يختلج في نفسه، ولو أخذنا قول قيس:

تعلّقت ليلى وهي غرّ صغيرة. ولم يبد للأتراب من ثديها حجم

لتذكرنا طفولتنا وبواكير شبابنا وحبنا الأول. وغير هذا كثير. فأي ضرب من ضروب الفن ، وأي شكل من أشكال الأدب يمنحك هذا الشعور.

بأقل لفظ يصل بك الشعر إلى المعنى المراد ويحققه ، فبيت واحد من الشعر تحتاج في نقله نثراً إلى صفحات عديدة، وإلى كثير من علب الألوان إذا أردنا رسمه فإذا ما قرأنا قول المتنبي:

ملاعب جنة لو سار فيها سليمان لكان بترجمان

ثماني كلمات لكن كم نحتاج لوصفها نثراً ورسماً.

لحظة من الصمت ظلّلتنا إلى أن قطعتها بقولها: وماذا عن الشعر العربي؟

فقلت: الشعر هو ديوان العرب والحافظ لتاريخ أمة لم تكن تعرف التدوين ، به عرفنا أنسابهم ، وعاداتهم وأيامهم وتراثهم وعرفناهم. ألا تتفقين معي أن أبا تمام منح (فتح عمورية) من المجد ما لا مثيل له في عصره في قصيدته التي يقول فيها:

يا يوم وقعة عمورية انصرفت منك المنى حفّلاً معسولة الحلب

وأن أخبار ذلك اليوم لم تكن لتصلنا بهذه الدقة الوصفية لولا تلك القصيدة .

والشعر عند العرب سوق جمعوا في حوانيته بضائعهم، ففيه فخرهم ومديحهم وهجاؤهم وغزلهم وحكمتهم وكل معنى في حياتهم بشتّى جوانبها.

قالت متسائلة : ما دام هذا حال الشعر فلم ينتقده البعض وينتقص من شأنه؟

قلت : أنت تقولين البعض ، وهؤلاء لم يعلموا حقيقة الشعر، فقد يكون أحدهم قرأ في غرض من أغراض الشعر فلم يرق له، أو ّقرأ بيتاً أو قصيدة لم تعجبه، أو أنه حاول سبر غوره فلم يستطع، وإن كان من مثلبةيريدون إلصاقها بالشعر فقد أخطأوا، إذ لا مثلبة في الشعر وإن وجدت فهي في الشاعر، ولو كان في الشعر منقصة ما سمعه أكرم الخلق صلى الله عليه وسلم ولا قاله بعض الصحابة والتابعين.

قالت: أراك متحمساً للشعر مهتماً به.

قلت: ليس الأمر على ذلك، ولكنه بسط لحقيقة غابت، وإيضاح لما خفي من أمر الشعر، وما قدحنا في الشعر أيامنا هذه إلا لجهل بحقيقته أحاط بنا، ولغربة باعدت بيننا وإياه لاغترابنا عن ذواتنا وأنفسنا، فلو كانت أجسادنا لا زالت تنطوي على حقيقتنا لكان الشعر أحبَ إلينا من الماء للصادي ولكن البعد عن الذات أبعدنا عما يسلّيها.

وهنا قالت: لا زلت مغترباً عن ذاتك لأنك تعيش في زمن آخر، هيا لننصرف علَّنا نلتقي على رصيف آخر.

مدار الساعة ـ نشر في 2019/08/27 الساعة 07:45