مدار الساعة - لم ينته الخلاف المتوارث حول آلية ثبوت بداية الشهر القمري، وهو خلاف كامنٌ يتفجّر مع بدايات الأشهر التي ترتبط بمناسبات دينية كبرى، كبداية شهر رمضان وشوال (عيد الفطر) وذي الحجة (عيد الأضحى). وقد لا يشعر عموم الناس بالمشكلة طوال العام.
وتمثل ليلة رؤية هلال العيد حدثاً شعبياً مفرحاً، يتجه فيه الناس لوسائل الإعلام يترقبون من خلالها كلمة مفتي الديار وهو يتلو نتائج استطلاع الهلال ويزف البشرى بقدوم العيد.
في الماضي، منذ عهد الفاطميين، كان لاستطلاع الهلال، في مصر، موكب ينتظم فيه رجال الدولة والقضاة والفقهاء والشعب ينطلقون جميعاً، رجالاً وركباناً، إلى مكان مخصص في جبل المقطم ينظرون في كبد السماء، فإذا ثبتت الرؤية؛ أعلنها قاضي القضاة، فينطلق الناس، وخاصة الصغار، يمارسون طقوس الفرحة التقليدية غناءً ولهواً.
خطوة للخلف
في شهر شعبان الماضي خالفت دار الإفتاء المصرية حسابات التقويم المنشورة المعتمدة من الجهات الفلكية الرسمية، وظلّ التقويم الذي اعتمدته دار الإفتاء مخالفاً للتقويم الفلكي المطبوع المعلق على جدران المنازل وعلى صفحات الجرائد دون أن يشعر كثير من الناس.
ويبدو أن حالة رضا مؤسسة الإفتاء الرسمية في مصر عن التقويم الفلكي في طريقها للانتهاء، وهي التي ظلت قائمة منذ كان الشيخ محمد سيد طنطاوي مفتياً للديار المصرية ( 1986 ــ 1996). وفي خطوة للخلف لصالح الرؤية البصرية التقليدية للهلال التي تميل إليها إدارة الإفتاء الحالية، والاكتفاء بدور الإرشاد والتوجيه؛ صرح الدكتور جاد محمد القاضي رئيس المعهد القومى للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية أن الحسابات الفلكية تقطع بوجود هلال شهر شوال (مساء الاثنين 29 رمضان) لكنها لا تضمن رؤيته، حيث تُيسر على الراصد يوم الرؤية الشرعية عملية تحري الهلال الجديد بالتوجه مباشرة نحو اتجاه وزاوية ميلاده دون إضاعة الوقت فى البحث عنه فى اتجاهات متعددة في صفحة السماء، وبذلك تمكن رؤيته ورصده مهما قلّت فترة مكثه بعد غروب الشمس.
رؤية وحسابات
كانت الرؤية البصرية لأهلة الشهور هي وسيلة العرب التقليدية للتقويم، ولما جاء الإسلامُ أقرّها، وفي القرآن: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ). وفي الحديث (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ، فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاَثِينَ). ومع اتساع الرقعة الإسلامية اتسع الخلاف حول بدايات الأشهر من مكان لآخر؛ ولم يحسمه اتفاق، رغم كثرة محاولات توحيد الأمة على تقويم واحدٍ.
برزت فكرة اعتماد الحسابات الفلكية لدى الفقهاء قبيل انتهاء القرن الأول، فقال: "مطرف بن الشخير" (95 هجري): "إذا أغمي الهلال، رجع إلى الحساب بمسير القمر والشمس". وانتصر للحسابات الفلكية كثير من الفقهاء، مثل: نجم الدين الخوارزمي الحنفي (658 هجري)، والإمام القرافي المالكي (684 هجري)، ونصّ الإمام السبكي الشافعي (756هجري) على أن الشهادة بالرؤية إذا خالفت الحساب القطعي رُدّت الشهادة واعتبر الحساب. واعتبر القليوبي (994 هجري) الاعتماد على شهادة الشهود المخالفة للحساب القطعي معاندة ومكابرة.
بدايات متضاربة
ومن غرائب الاختلاف في التقويم بسبب اختلاف الآلية أولاً ثم اختلاف الرؤية ثانياً؛ أنه سنة 1419هـجري (1998 ــ 1999 ميلادي) اختلفت بدايات رمضان عالمياً على ثلاثة مواقيت؛ فبدأ الأردن والسعودية رمضان يوم 19 ديسمبر/كانون الأول، ومصر والمغرب يوم 20، والهند وباكستان يوم 21. وفي عـيد الفـطر سنة 1420هـ أفطر المسلمون في أربعة أيام مختلفة؛ فأفطرت نيجيريا يوم 6 يناير/ كانون الثاني، والأردن والسعودية يوم 7، ومصر والمغرب يوم 8، والهند وباكستان يوم 9.
مشكلة البُشرى
كثيراً ما حدث اضطراب بسبب الصورة البدائية لتحديد بدايات الأشهر القمرية، وفي السعودية كان الناس يتسابقون نحو الإبلاغ عن رؤية الهلال طمعاً في مكافأة رسمية يطلق عليها "البشرى" يحصل عليها أول من يزعم أنه شاهد الهلال. وبسبب تلك البدائية تراجعت السعودية عن نتائج استطلاع هلال شهر ذي الحجة 1425هجري، بعد 4 أيام من بداية الشهر. كما أعلنت في بيان متأخر عن حدوث خطأ في استطلاع هلال المحرم 1433هجري، وقامت لاحقاً بتغيير بداية السنة، وحتى في العام الماضي حدث اضطراب في احتساب بداية أيام رمضان لدرجة أن بعض الصحف السعودية أنهت الشهر بـ 30 رمضان بينما صدرت صُحف أخرى في نفس اليوم بـ 29 رمضان.
تضارب المعايير
يشترط عموم الفلكيين ثلاثة شروط لتؤكد دخول الشهر الهجري القمري فلكياً، أولها أن يولد الهلال، ويسمونه (الاقتران) أو (التقاء النيرين)، ويعني وقوع الشمس والقمر والأرض على خط استقامة واحد قبل غروب شمس يوم الرؤية. وأن يكون الهلال كاملًا فوق الأفق من غروب الشمس. وأن يكون غروب القمر بعد غروب الشمس.
ولكن الفلكيين المعاصرين ورثوا بعض الإشكالات التي تصنع خلافاً في تحديد أوائل الشهور في ما بينهم، فهناك من يتمسك بأن بداية الشهر الجديد تثبت إذا مكث الهلال (ولو دقيقة واحدة) بعد غروب شمس اليوم التاسع والعشرين. وهو ما تعتمده (تونس). وهناك من يرى أن مكوث القمر بعد غروب شمس يوم 29 في الشهر الهجري يجب ألا يقل عن (20 دقيقة) على أن يكون ارتفاع القمر بمقدار 5 درجات، ويكون مقدار الاستطالة (أي: بعد القمر عن الشمس) بمقدار 7 درجات. وهو ما اعتمدته تركيا والجزائر، وفقاً للمؤتمر الإسلامي في إسطنبول 1978. وهناك رأي تتبعه مجموعة دول شرق آسيا (ماليزيا وبروناي وإندونيسيا) حيث تشترط أن يزيد عمر الهلال عن ثماني ساعات ويكون ارتفاع القمر فوق الأفق أكبر من درجتين قوسيتين والبعد الزاوي أكبر من 3 درجات قوسية. وأغرب الآراء هو ما اعتمدته ليبيا أيام القذافي، باعتبار بداية الشهر بعد لحظة الاقتران مباشرة.
العربي الجديد