هذا العنوان مصطلح استخدمه المرحوم الدكتور محمد عابد الجابري في أطروحاته حول تكوين ونقد العقل العربي، ويقصد به العقل الفلسفي العربي الذي تأثر بالفلسفات الهرمسية والمانوية التي كانت سائدة لدى الشعوب غير العربية قبيل ظهورالإسلام وهي فلسفات لاعقلانية تقول بعجز العقل البشري عن تحصيل المعرفة من خلال التفكر والتدبر في الكون.
أما مصدر المعرفة الحقة عندها فهو عن طريق الأتصال المباشر مع الله تعالى وهو مايسمى بالمعرفة اللدنية أي المعرفة عن طريق الوحي والألهام من لدن الله . وهذا التيار كان معروفا في الفلسفة اليونانية ويسمونه التيار الغنوصي او العرفاني والذي يتمثل اسلاميا في الفرق الصوفية والشيعية وبخاصة الاتجاهات الحلولية كما هو عند الحلاج ومذهب وحدة الوجود عند محي الدين بن عربي.
لقد استعرت هذا المصطلح لاشير به الى ظاهرة تسم تفكير كثير من المواطنين العرب والمسلمين ومنهم للاسف من يحملون درجات علمية عالية ناهيك عن المتعلمين او بسطاء الناس، انها ظاهرة غياب التفكيرالمنطقي والعقلاني في تحليل وتفسير بل وتبرير ما يجري من أحداث دامية منذ أكثر من عقد من الزمان على امتداد ساحات الوطن العربي والأسلامي، ومانجم وينجم عنها من مآس وويلات ودمار لم يبق ولم يذر، فأهلك الحرث والنسل والشجر والحجر.
لقد شهدنا ولا نزال نشهد استمرارا لمثل هذه التحليلات اللامنطقية منذ ظهور مايسمى بالحركات الجهادية كالقاعدة وداعش وأخواتها، تحليلات يقوم بها محللون سياسيون او فقهاء دينيون سواء عبر وسائط التفاعل الاجتماعي أو على وسائل الاعلام المرئية والمسموعة تبرر دينيا أسباب ودوافع وممارسات الحركات الارهابية والاجرامية المدانة بكل المقاييس الشرعية والوضعية، والتي أودت وتودي بحياة مئات الآلاف من عباد الله المؤمنين الابرياء ،اذ تلجأ هذه الأطراف الى تاويل النصوص الدينية بما يلائم اغراض تلك الحركات وتبرير ممارساتها الشاذة موحية للمتلقي بأنها هي الفرقة الناجية التي تسيرعلى الصراط المستقيم والتي انتدبها الله تعالى ـــ وحاشى لذاته تعالى ــ لتقيم شرعه على هذه الأرض بمثل هذه الممارسات الأجرامية ، وكانها لم تقرأ قوله تعالى ( من قتل نفسا بغير نفس او فساد في الارض فكانما قتل الناس جميعا) او قول الرسول الكريم (ص) (لأن تهدم الكعبة حجر حجرا أهون عند الله من أن يراق دم أمرء مسلم). وكذلك قوله (ص): (لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مؤمن بغير حق) .
صحيح أن مقاومة الظلم والطغيان والاستعمار حق مشروع لمن يعانون من ويلاتها وقد أجازته وأقرته الشرائع الدينية والوضعية، ولكن ممارسة المقاومة او الجهاد لها شروط وضوابط محددة ولم تترك لاجتهاد كل "من هب ودب " فيتصرف كلّ على هواه ووفق فهمه واجتهاداته. ان الذين يبررون سلوك هذه الحركات والمجموعات المسماة زورا بالجهادية لا يمكن أن تكون عقولها سوية وانما تم اغتيالها كما يقول المفكر السوري برهان غليون (له كتاب بعنوان اغتيال العقل) أو كما يقول المرحوم محمدعابد الجابري بتعبير آخر بأن عقلها قد قدّم استقالته ولم تعد قادرة على المحاكمات العقلية السوية لما يدور وما يجري من احداث ، لأن لديها قناعات فكرية دوجماتية وأحكاما فقهية تعتقد بقطعية دلالتها وبثباتها وديمومتها بغض النظر عن تغير الازمان والوقائع،فمثل هذه الجماعات وفقهاؤها يعيشون بيولوجيا في العصر الراهن أما عقليا ان كان لها عقل تفكر فيه فهوعقل من زمن هرمس وماني!
ان هذا النمط من التفكير اللاعقلاني واللامنطقي مازال للأسف مستمرا حتى هذه الساعة منذ الأجهاز على الأتجهات العقلانية في تراثنا وممثليها كالمعتزلة والتيارالرشدي في الفلسفة والذي كان من نتائجه اغتيال العقل العربي الاسلامي وتصفية ممثليه وحلول تيارات الجمود واللامعقول محلها ومن حينها قدّم العقل العربي الاسلامي استقالته ودخل في غيبوبة طويل الأجل الله وحده يعرف متى سيفيق منها.