قبل أزيد من مئة عام اصدر وزير الخارجية البريطاني ارثر بلفور وعده الشهير المشؤوم باقامة دولة اسرائيل في فلسطين، وعلى حساب اهلها الاصليين من مسيحيين ومسلمين، واقلية يهودية. وكانت هي بداية ولادة دولة اسرائيل بعد مؤتمر بال في 1898، والاعلان عن الوطن القومي لليهود في العالم، وانبعاث الاساطير الصهيونية المؤسسة لدولة اسرائيل : شعب بلا وطن، ووطن بلا شعب.
العرب كان يعيشون، وبعد أخطار الاحتلال التركي «العثماني» الذي أوصل البلاد العربية الى حافة الانهيار والسقوط، وأسس لحالة من التخلف والجهل وحالة من العدمية الحضارية «صفر حضاري «، وقد امتدت لأزيد من 4 عقود. الاحتلال التركي كلف الامة العربية اثمانا وطنية وحضارية باهظة لما أصابها من عطب وتعطل عن التقدم والتطور، وحالة اللاشيء والعدم في البناء الوطني، فهو لا يقل ويلا ومصيبة عن الاحتلال الاجنبي الاستعماري من فرنسي وانجليزي وإسباني وايطالي.
العالم العربي بعد الاحتلال التركي خرج مقسما باتفاقية سايكس بيكو وسان ريمو ووعد بلفور. والعالم العربي في الجغرافيا السياسية صار جزءا من ذكر وموروث، ومن ادبيات الماضي. الدولة الوطنية بعد الاستقلال من الاستعمار الاجنبي تهاوت أمام هزائم متتالية 48 و67، وتبعثرت هويتها في غمرة
امتداد لتبعيات امريكية وغربية واسرائيلية، وتهاوي مشروع بناء الدولة الوطنية.
والمفرقة اللعينة أن كل شي ء في العالم العربي لم يعد طبيعيا الا اسرائيل. كيان منبوذ، ويبحث عن اعتراف بخطط ومشاريع الاستعمار الاجنبي القديم بزراعته في قلب العالم العربي، تحول الى كيان معترف به جهرا وسرا، والاهم واقعيا أن اسرائيل ما عادت تكترث باعتراف العرب من عدمه. فاسرائيل في حصنها الحصين وسط عالم عربي مبعثر ومهزوز ومسكون بالفوضى واللامنطق واللاقانون.
المعادلة منطوقها يقول : أن الهزيمة قد استحكمت، ولاننا نواجه اليوم ما بعد وعد بلفور، ومتتاليات الهزيمة والنكبة، ومتلازمة صفقة القرن، وما يقود الامريكان من مشروع سياسي جديد لتصفية القضية الفلسطينية ووسط عالم عربي لم يعد باقيا به دول، مجرد قطع متناثرة على الخرائط لملعب أممي كبير.
واشنطن بقيادة ترامب تعلن عن صفقة القرن، وما يعني كثيرا ان العالم العربي سيكون في مواجهة مزيد من التفكك والعزلة وتثبيت لاسرائيل في فلسطين التاريخية، ومع اعلان ضم الجولان، وعزل غزة، وتلميح نتنياهو الى ضم المستوطنات في الضفة الغربية الى اسرائيل، فهذا أن فلسطين ما بعد اوسلو قد فرطت من السبحة.
صفقة القرن لم يعد مهما أن تكون سرية أو علنية. فالرئيس الامريكي المصاب بالغرور والبلاهة لا ينفك عن صرف صكوك ضمانات لنتنياهو الخارج منتصرا من الانتخابات الاسرائيلية الاخيرة، ويوزع بالقطعة الجغرافيا العربية الضائعة من الجولان الى غزة ومشروعها تسمينها للتحول لدويلة، والضفة الغربية ونقل السفارة الامريكية الى القدس، والغاء الاونروا.
العالم العربي لم يتغير عليه شيئ من مطلع القرن الماضي وخروجه من الاحتلال التركي، والى مطلع القرن الحادي والعشرين، وما يواجه من تقسيمات جديدة لجغرافيا بائسة ومفككة ومعطوبة، وفشل في بناء الدولة الوطنية، ومواجهة لتحديات عربية أكبر وسط ما يواجه البلاد العربية من حروب لها وعليها، وفوضى تطبق سيطرتها على البلاد العربية على امتداد جغرافيتها من الماء الى الماء.
فماذا تعني صفقة القرن؟ لابد من طرح السؤال، وحتى لا يخطفنا خطاب سياسي يروج للاستخفاف في الصفقة، والقول أن ثمة مبالغات في المخاوف الوطنية والشعبية منها. والتذرع بان التسريبات الامريكية مازالت غير منطوقة على لسان الادارة الامريكية في البيت الابيض ووزارة الخارجية، وكأن بعد ما أعلنه ترامب من تنازلات لاسرائيل ويوقع لنتنياهو حقه في ضم الجولان والقدس والضفة الغربية، وشطب حق العودة، وماذا قد تبقى من شيء ليتم اعلانه ؟
التحدي العربي صعب، ولربما أن المناخ العربي سيتولد رفضا وممانعة ومناهضة شعبية لأي مشاريع تستهدف القضية الفلسطينية. ويضاف اليها أيضا حراكات التحرر الشعبي العربي، والولادة الجديدة لارادة شعبية عربية تطالب بالعدل والحرية والمساواة . مناخ عربي ينبعث منه الامل، وتستفيق من روحه الطمأنينة، وبان مشروع ترامب لن يمر، ولا يمكن أن يمر، فالامة العربية خلاقة، والجماهير رافضة وقادرة بارادتها الحرة والمسؤولة لان تناهض المؤامرات الاجنبية، وقادرة على صناعة غد افضل، وكما يقال فان إرادة الشعب من إرادة الله .
الدستور