انتخابات نواب الأردن 2024 اقتصاديات أخبار الأردن جامعات دوليات وفيات برلمانيات رياضة وظائف للأردنيين أحزاب مقالات مختارة مقالات مناسبات شهادة جاهات واعراس الموقف مجتمع دين ثقافة اخبار خفيفة سياحة الأسرة

كراسي البلد

مدار الساعة,مقالات مختارة
مدار الساعة ـ نشر في 2019/02/08 الساعة 00:34
حجم الخط

بشاعة الصورة الیوم ان من یزعمون انهم كبار البلد (...) یأتون من كل حدب وصوب ینقضون على مواردها ویتباكون على تأخر نهضتها، فیقدمون وصفة ردیئة یجري الترویج لها والمصادقة علیها من قبل المتنفعین والسماسرة، ویقضون بعض الوقت في التجریب وممارسة السلطة وتنفیع الشلل ثم یرحلون بلا محاسبة

الأردنیون متعلقون بوطنهم ومتمسكون بكل ذرة تراب فیه ولا یقبلون ان یجري تسعیر مقدراته ووضعها في جداول ومصفوفات تعرض على من یرید التملك والاستثمار


لفترة قریبة اعتقدت ان اغنیة ”احنا كبار البلاد، واحنا كراسیها“ مجرد لحن راقص یبعث على الزهو والحماس، وانها انتشرت بفضل الطلة الممیزة وبحة الصوت وغمزة العین التي أتقنتها سمیرة توفیق وهي ترد شعرها بإیماءات تجعل الاداء لوحة سیریالیة آسرة.

في السبعینیات كانت سمیرة توفیق رمزا للجمال حسب المعاییر الأردنیة، وارتبط صوتها واسمها وحضورها بلون الغناء الموجه لإدامة البناء المعنوي للجنود والطلاب والرعاة والحصادین في الاریاف والبوادي والمدن. في هذه الاغنیة التي كتب كلماتها المشیر حابس المجالي لرفع معنویات الجنود وتعمیق احساسهم بالهویة التي یدافعون عنها یتداخل الصوت مع اللحن وتدغم الغمزة في الكلمات فتدغدغ قلوب واحاسیس الجنود الذین یستمعون للحن
ویشاهدون الاداء.

في حالات كثیرة یفقد الرجال انفسهم فلا یعرفون اذا ما كانوا یرقصون لعیون سمیرة ام للحن وكلمات العز والافتخار.

من وقت لآخر ینهال البعض باللوم والعتب او بالشكوى والتذمر فیقول ”یا اخي والله هالبلد كذا وكذا“، ویتناسى ان البلد لیست مقتصرة علینا ولا على هذا الجیل فقبلنا بكثیر كان فیها انبیاء ورسل ورهبان وشیوخ وفلاسفة وعلماء ورحالة وفرسان وشعراء واولیاء وصناع وزراع وحكماء ولصوص. كان فیها كل ما جعلها بقعة ممیزة على خریطة العالم وصفحة مهمة في تاریخ البشریة.

هذا البلد لم یولد معنا ولن ینتهي بنهایتنا. فعلى هذه الارض مر موسى وعیسى ومحمد علیهم السلام وكان میشع وادوم والحارث. في الأردن توقف امرؤ القیس والشنفرى وعاش نمر بن عدوان وتنقل بین بلداته عرار. وكان حابس ووصفي. وقبلهم كان الخزاعي والشریدة والجازي والاف الرجال والنساء ممن تركوا أثرا یتجاوز حدود زمانهم.

الأردنیون متعلقون بوطنهم ومتمسكون بكل ذرة تراب فیه ولا یقبلون ان یجري تسعیر مقدراته ووضعها في جداول ومصفوفات تعرض على من یرید التملك والاستثمار فهم یرون ان لكل واد قصة ولكل مغارة حكایة ولا یحبون الخصخصة ولا المرور على ذكرها.

على الارض الأردنیة نشأت قصص وصنع تاریخ تعرفه البشریة اكثر مما یعرفه جیل الخصخصة الذي اندفع متباكیا على الأردن، ویرید وضع خطة انقاذ ونهوض له لم تسفر الا عن بیع المقدرات وتأجیرها لیزداد الفقر وتتعمق البطالة وتتردى الخدمات.

خلال العقود الثلاثة الاخیرة انضم الى الادارة الأردنیة بعض من الشباب ممن امضوا جل حیاتهم في مجتمعات اخرى فغاب عنهم ما تعنیه الاماكن لسكانها وقیمة التاریخ للاجیال، فتعاملوا مع كل ما فیه كموجودات واصول یمكن تسعیرها والتصرف بها حسب القیمة السوقیة، فتبنوا برامج للخصخصة ادارتها عشرات الشركات والمؤسسات، ومع الوقت اصبحت الخصخصة منهجا انقسمت حوله القوى السیاسیة والاجتماعیة الى ان استقر كخیار سارت علیه
الكثیر من القطاعات.

الیوم وبعد مرور عقدین او اكثر على تبني الخصخصة لم یلمس المواطن شیئا من الوعود، فقد بیعت ممتلكات البلاد دون ان تتناقص الدیون، وتدهور مستوى الخدمات ونوعیة الحیاة، وتغیرت قیم العمل والخدمة العامة، وتأثرت الادارة العامة بمفاهیم الاكرامیة والحوافز التي شجعت البعض على الرشوة واستغلال الوظیفة واساءة الائتمان.

الیوم تعود لذاكرتي الكلمات والصورة في مشهد اقل براءة من المشهد الذي صنعته الاغنیة الاسطوریة التي احبها الجنود والعشاق والفلاحون. بشاعة الصورة الیوم ان من یزعمون انهم كبار البلد من تجار ومقاولین وانصاف موهوبین یأتون من كل حدب وصوب ینقضون على مواردها ویتباكون على تأخر نهضتها، فیقدمون وصفة ردیئة یجري الترویج لها والمصادقة علیها من قبل المتنفعین والسماسرة، ویقضون بعض الوقت في التجریب وممارسة السلطة وتنفیع الشلل ثم یرحلون بلا محاسبة.

في الأردن الیوم حاجة ملحة الى رؤیة وطنیة شاملة تتحول الى برامج ذات اهداف واضحة وآلیات تنفیذ مناسبة ضمن اطر زمنیة محددة یشارك في صیاغتها الجمیع. رؤیة تخرج البلاد من حالة الازمات المزمنة الى الحلول الممكنة التي یشارك فیها الجمیع، وفي بیئة تسود فیها العدالة والمساءلة.

الغد

مدار الساعة ـ نشر في 2019/02/08 الساعة 00:34