مدار الساعة - لعقود طويلة تسترت مصانع "دوبونت" المنتجة لمادة التيفلون المستخدمة في طلاء أواني المطبخ "تيفال"؛ على تركيبتها الكيميائية المضرة بصحة الإنسان والبيئة، وأخفت آثارها التدميرية على مستخدميها والمتعاملين معها مباشرة وأولهم عمالها وسكان المناطق القريبة منها. وبعد توسع استخدامها في صناعات كثيرة امتد ضررها إلى العالم بأسره، وهذا ما حاول الوثائقي الأمريكي "الشيطان الذي نعرفه" عرضه عبر بحث استقصائي جمع فيه الجانبين العلمي والإنساني، وركز كثيراً على آلام المتضررين منها ليُشعر متلقيه بفداحة ما قام به أصحاب المصانع وهم يعلمون علما وافيا بمخاطرها الجسيمة.
من حسن حظ صانعة الفيلم ستيفيني سوتشيغ أن من بين الضحايا الذين قابلتهم؛ فلاحا عنيدا من منطقة ويست فرجينيا الأمريكية يدعى ويلبور تينت، كانت مزارعه تقع قرب مصنع "دوبونت" لإنتاج طلاء التيلفون. فبعد ظهور أعراض مرضية غريبة على مواشيه وبروز تشوهات خَلقية على المولودة منها حديثاً أدت إلى وفاتها؛ راح يسجل بكاميرا فيديو شخصية تفاصيلها، مصحوبة أغلبيتها بتعليقات من عنده يشير فيها إلى قراره ملاحقة المتسببين بها وفضحهم بعد تكتمهم على أفعالهم عقوداً. في مشهد لاحق تقوم المخرجة بتصويره، يظهر الفلاح في عام 1997 وهو يهم بدخول صيدلية لشراء أدوية خاصة بعلاج مرض السرطان الذي أصيب به هو، إضافة إلى مواشيه.
التيفلون.. فتح علمي "لا يلصق أبدا"
وفرت التسجيلات الشخصية التي قام بها المزارع الأمريكي لصانعة الوثائقي المليء بالمعادلات الكيميائية المعقدة والمقدمة في إطار بصري سهل يمكن فهمه؛ قاعدة متينة يمكن الانطلاق منها والعودة إليها وقتما ظهرت الحاجة لذلك، لهذا ذهبت مباشرة لمعاينة المرحلة التاريخية المبكرة لظهور الإعلانات الأولى لمادة "التيفلون السحرية" خلال الفترة التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية، وكيف اعتبرها العلماء الأمريكيون فتحاً في عالم صناعة أواني الطبخ. فقد وُجِّهت الدعايات التلفزيونية وغيرها لمخاطبة حاجات ربات المنازل بشكل خاص عبر تركيزها على إبراز سهولة تنظيفها من بقايا مواد القلي المتبقية على سطحها، ولقوة إقناعها راج استخدامها وزادت كمية إنتاجها.
في سياق تكاملي يعرض الوثائقي قصصاً جانبية شديدة الصلة بالموضوع كقصة الشاب الذي ولد مشوه الوجه بسبب عمل والدته في مصنع "دوبونت" في منطقة بلومونت غرب فرجينيا خلال فترة حملها به. لقد تعززت شكوك الأم بوجود صلة بين مولودها المشوه ومادة التيفلون الخطيرة عندما طلب أصحاب المصنع عزلها مع بقية النساء عن الرجال. وسيكتشف الوثائقي أنه وإبان فترة الستينيات والسبعينيات سجل الموظفون المختصون بالجانب الطبي في المصنع تأكدهم من وجود مخاطر مباشرة على النساء العاملات والأجنة، في حين أنكروا وجودها على الذكور.
ستتعزز القناعة من تأثيرات مادة التيفلون الضارة أيضاً على الذكور والأطفال حينما يتوصل الوثائقي وعبر بحثه الجدي في ثنايا العمليات الكيميائية للطلاء العازل إلى أن 99% من مواطني أمريكا تجري في عروقهم نسبة من مادة "8 سي" الأساسية في مركب التيفلون، وأن الطفل المشوه الذي نراه في شبابه أُجريت له 30 عملية جراحية من أجل إبقائه حياً.
عذابات الطفل ومعاناة أهله يتركنا الوثائقي معها حتى النهاية، لأنه ومنذ البداية كان يريد لهذا الجانب أن يأخذ مساحته التي يستحقها ويبعد مساره كباحث في المادة العلمية إلى آخر يربط بين تعقيداتها ونتائجها حين تُستخدم ضد الإنسان وتُوظف لمصلحة أصحاب المشاريع والمصانع العملاقة.
تذهب المخرجة سوتشيغ إلى مدينة باركرسبورغ في غرب فرجينيا والمسماة "تيفلون لاند" لأن كل سكانها تقريباً كانوا يعملون في مصنع "دوبونت" وغالبيتهم ظهرت عليهم أعراض مرضية سببها تلوث هواء ومياه مدينتهم بفضلات المصنع المحتوية على مادة "8 سي".
ذهابها إلى هناك مبعثه انطلاق أولى الشكاوى الجماعية ضد أصحاب المصنع، وفي مراحل لاحقة تتحول إلى بؤرة لنشاط عام يهدف إلى توعية الناس في كل مكان بمخاطر تركيبة مادة التيفلون الكيميائية، والمطالبة بمحاسبة أصحاب المصانع المنتجة لها لاستغفالهم والاستهتار بحياتهم.
ومن الأسباب التي تجمع الناس على شكاوى موحدة جهلهم بوجود تسريبات كيميائية إلى مياه شربهم. فقد ظلوا يشربونها بكل سمومها طيلة عقود، وتسربت هذه المياه نفسها إلى الأنهر، ولهذا انتشرت الأمراض في أجساد الكثير من سكان المناطق القريبة.
"تيفلون لاند" ستُغيّر مسار الوثائقي وتحرف وجهته العلمية إلى أخرى ذات طابع تحقيقي. فبعد حصول محامي المشتكين على وثائق داخلية ومراسلات بين موظفي المصنع قررت صانعته الاعتماد عليها في ملاحقتهم واعتبارها مصدراً يمكن الحصول عبره على أدلة دامغة أخرى تدينهم.
من تحقيقاتها معهم يتضح دراية أصحاب الشركات والمصانع الكيميائية المنتجة لمادتي "8 سي" و"فلوربناتيد" بالتأثيرات الجانبية لها. لقد أكدت مختبراتهم وتجارب علمائهم على الفئران منذ الخمسينيات أنها مادة مسرطنة وأنها تتسبب في تشويه أجنة الحوامل، وإذا دخلت الجسم فإنها تبقى مدة طويلة فيه وربما لا يمكن التخلص منها أبداً.
لقد ظلت شركة "ثري أم" العملاقة للكيماويات تبيع التيفلون إلى شركات صناعة طلاء أواني الطبخ وغيرها من الصناعات، وأدى استخدامها على مدى طويل إلى تسرب المواد السامة والخطيرة إلى أجساد الملايين من البشر في الولايات المتحدة وخارجها.
ولأن المنَتج الناجح لا يُعرف له حدود، فقد انتشرت فكرة استخدام المواد العازلة بطلاء التيفلون على نطاق واسع، فدخلت في صناعة أصباغ السيارات ليسهل تنظيفها وتلميعها، وفي الملابس العازلة للمطر، وفي ورق تغليف السندويشات وأغلفة الفشار (بوب كورن) الجاهزة، عدا الكثير من المواد الكيميائية المستخدمة في صناعات متفرقة ومنتشرة في أنحاء العالم مثل طلاء الأخشاب والأثاث وغيرها.
أظهرت تحاليل مختبرية لعينات دم أُخذت من أطفال آسيويين أن نسبة كبيرة من دمائهم احتوى على مادة "8 سي"، ورغم ذلك أصر المسؤولون عن أقسام الدعاية في المصانع العملاقة على تكذيبها وأتوا بعينات أخرى سليمة يتضح للوثائقي من خلال محامي مدينة باركرسبورغ أنها مزيفة وتعود لجنود أمريكيين معافين شاركوا في الحرب الكورية قبل اكتشاف مادة "التيفلون" أصلاً.
أكاذيب مسؤولي المصانع ورؤساء أقسامها لا حد لها، فكلما تقدم المشتكون بأدلة حاولوا هم دحضها بأخرى لا صلة لها بالشكاوى نفسها. ومن المفارقات المؤلمة أن مؤسستي حماية البيئة والمستهلك الأمريكيتين لم تتدخلا بقوة لصالح الناس بل ظلت تتعاون مع أصحاب الشركات ولم تقم ببعض واجباتها إلا حين أسس المشتكون بأنفسهم معهداً لأبحاث المواد السمية الخطيرة مثل "8 سي" وغيرها. لقد حولوا التعويضات التي حصلوا عليها من بعض الشكاوى التي ربحوها ضد المصانع إلى صندوق دعم ومساعدة ضحايا المصانع الكيميائية، في مبادرة لافتة لم تحدث من قبل في الولايات المتحدة الأمريكية توقف الوثائقي عندها ومر عبرها إلى قصص جانبية أخرى أبطالها من الضحايا الذين بقوا على قيد الحياة، ورغم حاجتهم للعمل وقفوا ضد أصحاب هذه الشركات معرضين أنفسهم للطرد والتوبيخ.
يفتح البوح الحزين للضحايا أمام الوثائقي الألمعي الممتع والمفيد أبواباً جديدة له يعمق من خلالها معرفته بطبيعة عمل الشركات العملاقة في المناطق السكنية القريبة منها، وكيف تخطط بدهاء للسيطرة على سكانها، وتُعجزهم عن فك ارتباطهم بها عبر حقيقة تقديمها مساعدات مهمة لهم تخفي بها جرائمها.
يزور الوثائقي أماكن لهو رياضية واجتماعية بَنَتها المصانع التي وفرت بالأساس فرص عمل نادرة لهم عاشوا عقوداً هم وأطفالهم عليها، ولهذا كان الفكاك منها شبه مستحيل. من طالب في بداية الأمر برفع دعاوى ضدها قوبل بالرفض خوفاً من طردهم، وعليه تعد مبادرة الشجعان منهم جريئة جدا ليس لأنها فتحت منفذاً جديداً يمكن من خلاله محاسبة المذنبين على جرائمهم، بل لفتحها أيضاً عيون البشرية على مواد كيميائية تدخل في صناعة الكثير من البضائع التي نستهلكها يومياً دون معرفة منا بما تحتويه من مخاطر على صحتنا.
حفز نشاط من قرر البوح مدنا أخرى في مختلف دول العالم على فضح هذه الشركات، فراح سكانها يطالبون دولهم بإصدار قوانين تحميهم وتحمي البيئة. ومن متابعة مسيرة الوثائقي في ذلك الجانب نفهم سبب اتخاذ بعض الشركات الكيميائية المنتجة للمواد السُمية الداخلة في صناعة التيفلون قرارات بوقف إنتاجها منذ أواسط العقد الثاني من القرن الحالي، وفي مقابل ذلك أيضا أصر كثير من أصحاب المشاريع العملاقة على التحايل والاستمرار.
فقد أعلنت شركة "دوبوينت" التزامها باستخدام مواد أخف ضرراً، لكنها أصرت وبقوة على الاستمرار بإنتاج أكثرها خطورة تحت شعار تضليلي يقول "8 أس.. الشيطان الذي نعرفه" في تلميح يراد به الإشارة إلى أنه أفضل من بقية مركبات شيطانية أخرى لا نعرفها وربما قد تكون أكثر فتكاً بالأجساد.
كذبهم وتحايلهم استمرا، وخاتمة الوثائقي تحيلنا إليها عبر إعلان نيّتهم استبدال المواد القديمة بأخرى أخف تأثيراً على البشر، مثل مادة "جينكس" التي سيفتضح أمرها ويُثبت الوثائقي بأنها لا تقل فتكاً عن سابقاتها، كما يحيلنا المشهد الختامي منه إلى نفس النتيجة حين يظهر فيه مسؤولو شركة "تشيمورس" البديلة التي أُعلن مؤخراً عن تأسيسها كرديف لشركة "دوبونت" ويراد بها الظهور بوجه ناصع أمام المستهلك غير وجه الشركة الأم ذاك الذي شابه الكثير من التشوهات وما عاد يصلح أبداً للتضليل.
الجزيرة