مدار الساعة - صادف يوم أمس الذكرى الثالثة والثلاثون لوفاة القاضي ابراهيم الطراونة. وعمل الفقيد الطراونة في بداية حياته معلماً ومحامياً وقاضياً في مختلف مدن المملكة حيث عمل رئيسا لمحكمة الجمارك ومفتشا عاما للمحاكم الاردنية ورئيسا لعدة هيئات قضائية، مثلما عمل قاضيا لمحكمة ابو ظبي بدولة الامارات العربية المتحدة لأكثر من سبع سنوات، اضافة لعمله مندوباً عن الاردن بجامعة الدول العربية لعدة فترات عن اللجان القانونية وعضواً في لجنة انتقاء الموظفين . والمرحوم القاضي الطراونة من مواليد عام 1929 في مدينة الكرك ودرس القانون في جامعة دمشق ومارس في بداية حياته العمل السياسي والحزبي ومن ثم انتقل للعمل في السلك القضائي الاردني وكان آخر مناصبه عضواً في المجلس القضائي الاعلى وقاضيا لمحكمة التمييز والعدل العليا، ومنحه المغفور له الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه وسام الاستقلال من الدرجة الاولى تقديرا لخدماته الجليلة ولسيرته القانونية العطرة وذلك يوم ذكرى وفاته، كما تم اطلاق شارع يحمل اسمه في مناطق عمان الغربية تخليدا لذكراه الطيبة. وكان المرحوم ابراهيم الطراونة قد ساهم مع زملائه في السلك القضائي على رفعة القضاء الاردني والعربي رحم الله "أبا باسل" وأسكنه فسيح جنانه.
- وابرز ما قيل في المرحوم الطراونة ما كتب بقلم هزاع البراري قبل سنوات هذا نصه:-
إبراهيم الطراونة. القاضي العادل والسياسي المبدئي
كان القاضي والسياسي إبراهيم الطراونة، يحلق في سماء الوطن كالنسر، فارداً جناح العدل والحق في جانب، وجناح المبدأ والمعتقد السياسي في الجانب الآخر، ولم يتخل عن أحد جناحيه يوماً، فبقي حتى بعد وفاته بسنين يحلق عالياً في فضاء الذاكرة الوطنية، مع رجال الدولة الأردنية الأوائل الكبار، فقد شكل مدرسة في الأخلاق والمبادئ، فعرف بالنبل وطيب النفس والتواضع، وتمسكه بالحق والعمل من أجل تحقيق العدل، وبقي منحازاً للبسطاء والمهمشين، لا تأخذه في الحق لومة كبير أو سلطة متنفذ، لذا حظي بشعبية كبيرة ومحبة لا حدود لها، وهو الذي أفاد من رجال القانون والقضاء الكبار، من أمثال القاضي الكبير موسى الساكت، فكان مثاله وقدوته، لكنه بنى شخصيته القانونية، ورسخ نهجه الواضح والمستند إلى القيم والأخلاق وحفظ الحقوق، وهو ما جعله محط الثقة، وأهلاً للمهام الكبرى التي أسندت إليه، طوال حياته العملية.
نثر سنوات عمره على امتداد رقعة الوطن، فأنبتت سنابل خير وألفة وعمل صادق، فعلى الرغم من أن بلدته " الخالدية " القريبة من مدينة الكرك، هي مسقط رأسه عام 1929، وتعد " الخالدية " إحدى قرى عشيرة الطراونة، التي تعد من العشائر الأساسية والكبيرة في الكرك، وكان لها حضورها الواضح في تاريخ الأردن الحديث، حيث كان حسين باشا الطراونة عم إبراهيم الطراونة، أحد قادة ثورة الكرك ضد عسكر الدولة العثمانية عام1910، وقد نشأ إبراهيم سالم الطراونة في كنف والده الشيخ سالم الطراونة، الذي كان شيخاً وزعيماً عشائرياً، وقاضياً طيّب السمعة، وصاحب مشورة صائبة، فكثيراً ما كان يتم اللجوء إليه في حل قضايا عشائرية شائكة، أو من أجل الحصول على مشورة في مشكلة أو موقف ما، وكان الشيخ سالم الطراونة داعماً ومسانداً لشقيقه حسين باشا الطراونة، الذي أصبح قائداً للمعارضة الأردنية ضد الوجود البريطاني في الأردن، ومناهضاً للمعاهدة الأردنية البريطانية، وذلك من خلال عمله على عقد المؤتمر الوطني الأول عام 1927، والذي تحول إلى حزب سياسي فيما بعد.
تشبع " الطراونة" بهذه الروح الوطنية النابضة، وبالأفكار السياسية الهادفة إلى تحرر الوطن، وبناء مستقبل زاهر لأبنائه، كما تشرب خبرة والده العشائرية وخبرته في القضاء العشائري، ونهل من فكر وتجربة عمه حسين باشا السياسية، وكان لهذه البيئة الغنية في فترة مبكرة من عمر الدولة الأردنية، دورها الرئيسي في تكوين البنية الفكرية والسياسية لإبراهيم الطراونة، والذي درس في مدرسة الكرك المرحلة الابتدائية، وكان من الجيل الأول الذين التحقوا بمدرسة الكرك الثانوية، حيث كان طلبة الكرك سابقاً يذهبون إلى مدرسة السلط الثانوية، لكن تأسيس مدرسة ثانوية في الكرك، سهل عليه إكمال دراسته الثانوية في مدينته، نال أعلى الدرجات في كل الصفوف، ولم يتنازل عن المركز الأول، لذا كان محط إعجاب وتقدير معلميه الذين كان من بينهم كما يذكر ذلك الباحث محمود عبيدات: بكر صدقي، جميل ذياب الذي بشر بمستقبل زاهر لإبراهيم الطراونة، وأوصى والده الشيخ سالم أن يرسله إلى دمشق ليدرس القانون، وكان ذلك وسط حفل كبير حضره شيوخ ووجهاء الكرك، ومن مدرسيه أيضاً فريد مسنّات، متري حمارنة، عودة العمارين، حسن القيسي، نصوح القادري، محمد نويران، وعبد الله المدادحة.
أنهى إبراهيم الطراونة دراسته الثانوية حاصلاً على شهادة الثانوية العامة بتفوق، وقد أهلته هذه الشهادة في تلك الفترة، ليعين معلماً في وزارة التربية والتعليم عام 1950، وقد درس لمدة عام في مدارس الكرك، غير أن وصية معلمه جميل ذياب، دفعت والده إلى إرساله إلى سوريا، ليلتحق بجامعة دمشق، من أجل دراسة الحقوق، فأصبح طالباً في كلية الحقوق بجامعة دمشق عام 1951، وكانت جامعة دمشق في تلك الفترة، إحدى معاقل الحركة القومية العربية، وقد نشطت فيها الأفكار والأحزاب القومية، وكانت روح إبراهيم الطراونة تواقة للقومية العربية وحلم الوحدة العربية، وقد تأثر بمنظري حزب البعث العربي الاشتراكي، خاصة مؤسسه مشيل عفلق والمفكرين أكرم الحوراني وصلاح الدين البيطار، فانضم إبراهيم الطراونة إلى حزب البعث، مع عدد من الطلبة الأردنيين من أمثال عبد السلام المجالي، وعبد الله الريماوي، وسليمان الحديدي، وعبد الله نعواس وغيرهم، وقد كان من بين زملائه في جامعة دمشق من الطلبة الأردنيين من جيله: عبد المجيد الغرايبة، مضر بدران، صالح الصوراني، خليف السحيمات، إسماعيل محادين، فلاح ماضي، ناجي الطراونة وغيرهم.
خلال دراسته في جامعة دمشق زامل عدداً من الطلاب العرب، الذين كان لهم دورهم وحضورهم المشهود في بلادهم منهم: محمد أديب السادات، محمد العظم، بطرس الطويل، عبد الرحمن المالكي، راشد الأتاسي، أحمد القدسي، عبد الرحمن الصابوني، رجاء البيطار ومحمد صبحي عرابي. أنهى إبراهيم الطراونة دراسته الجامعية عام 1955، حاصلاً على لسانس الحقوق، وعاد إلى الأردن مدشناً عمله في مجال المحاماة بعد إنهاء مرحلة التدريب المطلوبة، وقد كان أول مكتب محاماة أفتتحه الطراونة بالشراكة مع كل من خليف السحيمات وسليمان الحديدي وصالح صوراني، وقد عين إبراهيم الطراونة في وزارة العدل بوظيفة " رئيس
كتّاب محكمة بداية إربد " وتمكن خلال هذه الفترة من التواصل مع الناس بفعالية، كما تعرف على عدد من رجال الدولة من بينهم دولة وصفي التل.
تميز عمله في مجال المحاكم بالتنقل المتواصل، فلقد جاب معظم مدن وبلدات الأردن من شماله إلى جنوبه، وكان دائماً يقبل بهذه التنقلات المتتالية رغم عدم رضاه أحياناً، ونظراً لجلده وإخلاصه، فقد كان ينال ترقيات ميدانية استثنائية، فقد عين بالدرجة السابعة، لكنه تقدم سريعاً لتميزه ولخدمته في مناطق بعيدة، فبعد عمله في إربد، نقل ليعين قاضياً في محكمة صلح الكورة في كانون الأول عام 1955، وبعد عمله في الكورة، نقل إلى محكمة صلح الطفيلة في آب عام 1959، ولم تتوقف سلسلة التنقلات في حياة إبراهيم الطراونة العملية، وكان لنزاهته وحبه للعمل والناس، أن نال عدداً من الترقيات في درجته الوظيفية، ففي عام 1960 نقل إلى محكمة صلح عجلون، وفي نيسان من نفس العام نقل إلى محكمة صلح معان حيث رفع إلى الدرجة الخامسة، لكنه عاد في عام 1961 إلى محكمة عجلون، وقد رافق نقله هذا ترفيعه إلى الدرجة الرابعة، وجاء هذا الترفيع استثنائياً لتميزه في العمل وتحمله مشقة التنقل ومن مكان إلى آخر. ( كما يذكر ذلك محمد عبيدات في بحث له عن إبراهيم الطراونة ).
في عام 1965 نقل إلى السلط عضواً في محكمة البداية، وقد ترافق ذلك مع حصوله على الدرجة الثالثة، وقد أصبح قاضياً لمحكمة صلح إربد عام 1966، وبعد سنتين أصبح قاضياً لمحكمة بداية إربد، وفي شهر آيار عام 1970 عين رئيساً لمحكمة بداية الجمارك، وقد رفع إلى الدرجة الأولى عام 1972، حيث نقل في اليوم ذاته إلى محكمة الاستئناف في العاصمة. بعد عام واحد تمت إعارته إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث شغل منصب مستشار في وزارة العدل في أبو ظبي، وكانت علاقته قوية بالجالية الأردنية هناك، وحاضراً في الفعاليات والأنشطة الاجتماعية والوطنية، وقد أنهى إبراهيم الطراونة إعارته عام 1978، وعاد بعدها إلى عمان، حيث عين عضواً في محكمة استئناف العاصمة، ورفع إلى الدرجة الخاصة، فكان من القضاة القلة الذين نالوا هذه الدرجة في تلك الفترة، وفي عام 1979 عين مفتشاً في وزارة العدل، وقد استمر في هذا المنصب حتى عام 1985، عندما أصبح عضواً في محكمة التمييز ورفع إلى الدرجة العليا، وخلال عمله في مفتشاً انتدب ليعمل وكيلاً _ أمين عام _ وزارة العدل.
عين عضواً في لجنة انتقاء الموظفين، بالإضافة لعضويته في المجلس القضائي الأعلى، كما تم اختياره في العام نفسه مندوباً عن الأردن لحضور اجتماعات اللجنة القانونية الدائمة، التابعة لجامعة الدول العربية في تونس. تزوج القاضي إبراهيم الطراونة من الناشطة السياسية هدى خريس، شقيقة السياسي الدكتور يحيى خريس، وقد عملا معاً فيما بعد في العمل الحزبي، وكانت لهم مكانة حزبية وسياسية كبيرة، خاصة في أوساط الحركة القومية البعثية، وابنه البكر باسل الطراونة إعلامي معروف، شغل منصب مدير عام المركز الإعلامي الأردني، ويعمل حالياً مستشاراً في الوزراء، أما ابنه طارق فيعمل مديراً لأحد البنوك، ولديه خمس بنات.
توفي وهو في قمة عطائه ونشاطه، وكان نزيهاً نظيف اليد والقلب، حتى أن القاضي الكبير المرحوم موسى الساكت قال عنه، لقد توفي إبراهيم الطراونة ولم يكن في سجله المالي سوي سبعة دنانير، فقد زهد بالمال والمناصب، وانشغل بخدمة الوطن وإعلاء شأنه من بوابة القضاء والفعل السياسي. وقد خرج في وداعه إلى مثواه الأخير رجال الدولة الأردنية والشيوخ والوجهاء، وأصحاب الفكر والرأي، وشكل فقده خسارة كبيرة، خسارة يكبر حجمها مع مرور الأيام.