مدار الساعة - بعد مرور نصف ساعة على غروب الشمس يوم الأحد الماضي، تجمّع ثلاثة أطفال أصدقاء، شرقي قريتهم الحدودية "وادي السلقا"؛ تجمعهم هواية صيد العصافير، وحب الطبيعة.
لم يكن تواجدهم في هذا المكان الخطر، غريبا، فقد شاءت الأقدار لقرية "وادي السلقا"، أن تلاصق السياج الحدودي بين قطاع غزة، وإسرائيل.
هذه الجيرة الإجبارية، لإسرائيل، لم تكن حدثا طيبا، لهذه القرية الصغيرة، التي تقع وسط قطاع غزة، ولا يتعدى عدد سكانها الخمسة آلاف نسمة، فطالما تعرضت بسببها، للانتهاكات الإسرائيلية منذ عشرات السنين، بدءا بالاجتياحات، وعمليات إطلاق النار، وليس انتهاءً بعمليات تجريف أراضيها الزراعية ومبانيها.
أطفال "وادي السلقا" الثلاثة، انطلقوا كعادتهم، راغبين باللهو وبعض الفائدة.
لكنهم لم يدركوا أن "الذئب"، كان هناك؛ خلف السياج، يترقبهم، وينتظر لحظة اقترابهم كي ينقض عليهم، ويلتهمهم.
لا أحد يدري بالضبط، ماذا حصل في اللحظات الأخيرة من حياة الأطفال، محمد السطري (13 عاماً) وخالد أبو سعيد (14 عاماً) وعبد الحميد أبو ظاهر (13 عاماً)، لكنّ ذويهم يخمنون أن الطفلين السطري وأبو ظاهر انشغلا بنصب شبكة لصيد الطيور البرية؛ فيما كان الطفل أبو سعيد ينبش الأرض بيديه كي يجمع بعض "الحشائش" البرية كوجبة عشاء لأغنامه التي يرعاها وتنتظره في حظيرته الصغيرة.
تلك اللحظات الجميلة، التي كانت من المفترض أن تنتهي بوجبة عشاء بسيطة، إلى جانب رشفات من الشاي، حوّلها صاروخ إسرائيلي إلى نهاية أبدية من "أشلاء ودم".
كل ذلك حصل، والأطفال الثلاثة الذين انفجر فيهم الصاروخ لا زالوا ينزفون، ربما استشهد أحدهم –لحظتها- وربما كانوا جميعهم أحياء؛ هكذا قالت عائلات الأطفال في حوارات منفصلة مع وكالة "الأناضول".
الجيش الإسرائيلي، وفق العائلات، أعاق وصول سيارات الإسعاف إلى مكان الاستهداف فور حدوث الاستهداف، ما تسبب بتأخر إسعاف من كان مصاب آنذاك، وانتشال جثامين الأطفال بعد مدة زمنية طويلة على الاستشهاد.
محمد الهسي، مدير مركز إسعاف الهلال الأحمر الفلسطيني (غير حكومية) في مدينة خانيونس (جنوب)، قال لوكالة الأناضول:" في الوقت الذي سمح لنا فيه الاحتلال بانتشال الجثامين كان اثنين من الأطفال تظهر على أجسادهم حركة القرفصاء، في إشارة إلى أنهم حاولوا –ربما- الاختباء من الصاروخ، أو من إطلاق نار سبقه، ما دفعهم لهذه الجلسة والاحتماء بالجدار القصير الذي كان ملاصقاً لهم، كما قال.
وبرّر الجيش الإسرائيلي قصفه الأطفال، بأنهم حاولوا زرع عبوة ناسفة قرب الجدار الفاصل.
وقال الجيش في بيانه:" طائرة العسكرية استهدفت خلية مكونة من ثلاثة شبان فلسطينيين قرب السياج الأمني بين غزة وإسرائيل، كانوا يحاولون العبث في السياج الأمني وكما يبدو زرع عبوة ناسفة بالقرب منه".
**إعدام للأطفال
واتهم أهالي الشهداء الثلاثة الجيش الإسرائيلي بـ"إعدام أطفالهم"، لافتين إلى أن الجيش لديه تقنيات تكنولوجية متطورة جداً تمكّنه من معرفة إذا ما كان المتواجد قرب الحدود طفل أم شاب، يلعب أم يزرع عبوة ناسفة.
إبراهيم (46 عاماً)، والد الطفل الشهيد محمد السطري، يقول إن صداقة الأطفال الثلاثة بدأت منذ صغرهم بحكم الجيرة.
وكان الأطفال الثلاثة يقضون أوقات فراغهم في اللعب سوياً، إلى جانب ممارسة هواية صيد الطيور في المنطقة الحدودية.
وقبيل ساعة من مقتله بصاروخ إسرائيلي، كان الطفل "محمد" منهمك في مساعدة والده في الأرض الزراعية، وخرج فور انتهائه للقاء صديقيْه.
وينفي الوالد ادعاء إسرائيل محاولة الأطفال زرع عبوة ناسفة قرب الحدود، لافتاً إلى أن محمد ذهب كي ينصب شباكه لصيد العصافير هناك.
ويمتلك الطفل "محمد" الكثير من الشغف لصيد الطيور البرية والاعتناء بها، على حدّ قول والده.
ويقول لوكالة الأناضول:" إن محمد كان طفلاً حافظاً لأغلب سور القرآن الكريم، وأتم حفظ نحو 23 جزءاً منه، كما تعلّم مؤخراً مهنة تصليح الدراجات الهوائية لمساعدة عائلته".
**ترقّب وخوف
محمد (47 عاماً)، والد الطفل خالد أبو سعيد، قال إن طفله خرج بعد أذان المغرب إلى المنطقة الحدودية برفقة صديقيْه من أجل جمع الحشائش البرية لأغنامه.
وهذا الأمر الذي اعتاد عليه "خالد" منذ صغره، حيث يملك حظيرة صغيرة بالقرب من منزله، فيها عدد من الأغنام والدجاج.
لم تكن المرة الأولى التي يتوجّه إليها خالد نحو المنطقة الحدودية، لكنّها كانت الأخيرة بعد أن قتلهم الصاروخ الإسرائيلي.
لحظة انفجار الصاروخ، هرع الوالد "محمد" إلى باب المنزل ليستطلع الأمر، فتسلل إليه خبر استهداف ثلاثة أشخاص؛ دون أن يعلم بعد أن طفله "خالد" من بين المستهدفين.
اعتقد الوالد أن طفله كان برفقة أصدقائه، وتوجّهوا بعد أن انتهوا من المنطقة الحدودية إلى أحد المقاهي لممارسة الألعاب الالكترونية، كما يفعل دائما.
ورغم توتّر الأجواء الميدانية، وحالة الرعب التي بثّها صوت الطائرات وإطلاق النيران في قلوب الأطفال، إلا أن "خالد" وصديقيْه لم يعودا بعد إلى منازلهم.
وقال الوالد:" توقعنا أنهم يلعبون في مقهى الألعاب وأنهم منسجمون في اللعب ما دفعهم للتأخر عن المنزل".
وشعر الوالد "محمد" بالقهر حينما سمع صوت الرصاص الإسرائيلي الذي كان يُطلق صوب منطقة الاستهداف، لمنع سيارات الإسعاف من الاقتراب لإنقاذ حياة المستهدفين.
وقال:" شعور كشعور أي إنسان يريد أن ينقذ حياة إنسان آخر، دون أن يعرف أن المستهدف هو طفله".
ولفت إلى أن الجيش الإسرائيلي "يتغوّل في قتله للفلسطينيين دون التفرقة بين المدني والعسكري، العجوز والطفل والشاب"؛ فالجميع في قطاع غزة مستهدفين، كما قال.
ومع مرور الوقت، وعدم عودة "خالد" للمنزل بدأت الوالدة "سلوى" (47 عاماً) تشعر بالرعب، خوفا على طفلها، خشية أن يكون ضمن المستهدفين.
ومضت الدقائق، حتّى دوّى في المنزل صراخ شقيقات "خالد"، اللواتي وجدن صورة شقيقهن منتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو "شهيد" داخل ثلاجات الموتى في المستشفى.
لم تستوعب العائلة صدمة الصورة، ولا هول الموقف، الذي حوّل طفلهم إلى أشلاء، بذنب أنه ذهب لجمع الحشائش البرية لأغنامه، على حدّ قول الوالدة.
وبعد مرور نحو يومين على استشهاد خالد، تقول الوالدة بصوت مرتعش إنه ترك "فراغاً كبيراً في المنزل لا يمكن أن يملأه أحد من أشقّائه".
** اغتيال وصمت عالمي
تمرّ جريمة قتل الأطفال الثلاثة شرقي قطاع غزة على العالم بصمت، هكذا قال محمد أبو ظاهر، والد "عبد الحميد".
ويشدد على ضرورة توظيف هذه الجريمة لـ"هز ضمائر العالم" ولفت نظره لـ"الجرائم التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي بحق الأطفال الفلسطينيين"؛ فالأطفال "أبرياء خرجوا للتنزه لا أكثر".
وينقل أبو ظاهر على لسان المسعفين أن اثنين من الأطفال كانوا ملتصقين جداً ببعضهم البعض، في إشارة إلى أنهم كانوا لا يزالون على قيد الحياة لحظة الاستهداف.
لكن إعاقة الجيش الإسرائيلي للإسعاف من الوصول إلى المنطقة، تسبب بإعدام الأطفال، على حدّ قوله.
والدة "عبد الحميد"، عائشة (53 عاماً) تقول إن طفلها كان يطمح لأن يكون "ميكانيكي" مركبات.
وقالت:" قتل الجيش الإسرائيلي الأطفال وقتل أحلامهم وطموحاتهم بدم بارد".
وكان الطفل "عبد الحميد" يعمل في أوقات متقطعة بالزراعة والطيور من أجل مساندة عائلته، ولتوفير ثمن دراجة هوائية كان يرغب في اقتنائها.
خمسون شيكلاً (13.8 دولار أمريكي)، هو المبلغ الذي استطاع "عبد الحميد" توفيره حتّى يوم استشهاده، وهو المبلغ الذي لن يكتمل أبداً، ولن تستند دراجته الهوائية على حائط المنزل.
الاناضول