مدار الساعة- غروب الشمس الناعسة في الأفق ينسدل برفق على أعالي سفوحها.. رمالٌ مستلقيةٌ وأخرى متواريةٌ خلف جبال عاتية.. نسيمٌ معطرٌ عليل.. ليلٌ يعانق النجوم في سمائها.
إنها صحراء "وادي رم" بالأردن التي تسحر زائرها بجمالها غير التقليدي، وتأخذه ممتطياً إِبلها في رحلة تظل خباياها وعشقها في الذاكرة، ليعود إليها كلما قادته الأقدار.
جمالٌ يجعل يأس الزائر يجف على باب الطبيعة الموصود، ويستسلم إلى أوتار لحنها.
فتلك راويةٌ تسير بالماء في إناء فوق رأسها فيتناثر بعضه على ملابسها وهي تحث الخطى إلى خيمتها.. وهذه ناقة حارسة على الباب.
أما الليل، فله قصته مع سكونه الذي يرخي نفسه على المكان، حيث القمر والنجوم يرسلان نورهما على ضيوفهما مؤذنين بسهر صحراوي يتراقص على أنغام "السامر" و"الدحية" (رقصة بدوية تنتشر في فلسطين والأردن والعراق وسوريا وبعض دول الخليج).
تفاصيل تدفع عشاق السفاري والسبر في أعماق الصحراء، إلى حزم حقائبهم من أجل الإبحار في أسرار هذا العالم.
عالم انطلق من أمام مفوضية العقبة برئيسها ناصر الشريدة، الذي يسهر على تنشيط السياحة في مدينته الواقعة في أقصى جنوب الأردن، على خليج العقبة، والتي تحولت لبقعة تكشف جمال المملكة بسهولها ووديانها وآثارها.
يقول الشريدة للأناضول إن "السياحة في العقبة تحظى بعناية خاصة"، مشيراً إلى أن "المدينة شهدت توسعا سياحيا غير مسبوق من حيث عدد المنشآت السياحية والفندقية والخدمية المساندة".
70 كيلو مترا تلك هي المسافة الفاصلة بين العقبة ووادي "رم" أو ما يسمى بوادي "القمر" نظراً لتشابه تضاريسه مع تضاريس القمر، تلك البقعة التي تعج بأقدام السياح من جميع أنحاء العالم نظرا لمناظره الخلابة التي رسمتها يد الطبيعة.
وعند نقطة في حضن جبل، ينتظر صاحب أحد مخيمات البدو في قلب الوادي، السياح، لينطلق بهم في سيارته الدفع الرباعي، في رحلة عنوانها المغامرة والإثارة على بطن الرمال الذهبية، يلفها رياح عليلة تعاكس الزائر أينما ولَى وجهه.
ليتوقف الجميع عند استراحة بين أخاديد صخرية، يستجمعون عند موقد للنار بعضاً من طاقة توصلهم لمحطتهم التالية، وهم يرتشفون الشاي المطَعم برحيق الحطب في مكان يعترفون أن سحره وأسطوريته خطفتهم إلى عالم الحالمين
بالهدوء والاسترخاء في أحضان الطبيعة لا زحمة المدينة.
"مراد الزوايدة"، سائق سيارة الدفع الرباعي وعدد من أبناء البادية، يحدثون الزوار عن هذا المكان الذي يقصده السياح من كافة أرجاء المعمورة، ممن يبحثون عن التمتع بالمناظر الخلابة، أو متسلقي الجبال وعشاق أجواء المغامرة والإثارة.
أبناء البادية يحدثون الموجودين من السياح عن ما أظهرته البحوث الميدانية من وجود تجمعات سكانية في الماضي وفي فترة أواخر العصر الجليدي (قبل 10 قرون)، حيث كانت المنطقة كثيفة الأشجار وتتلقى كميات كبيرة من الأمطار
وكان مظهرها في تلك الفترة بعيدا جدا عن طبيعتها الصحراوية الحالية، فضلاً عن وجود كميات كبيرة من المياه الجوفية.
علاوة على من وثّق حول "وادي رم" في التاريخ، حيث يُعتقد أنه الجغرافي الروماني "تولمي" في كتابه "الجغرافيا" وذكره باسم "اراموا"،
فضلاً عن المعتقد بأن هذه المنطقة هي التي ذكرها القرآن الكريم باسم " إرم" في قوله تعالى : "ألمْ ترَ كيفَ فعلَ ربُكَ بعاد، إرمَ ذاتِ العماد، التي لم يُخْلَقْ مثلُها في البلاد" وإن كان هذا موضوعاً خلافياً لوجود منطقة أخرى
في اليمن باسم " إرم" أيضا.
أما في التاريخ الحديث، فقد سكنت المنطقة قبائل بدوية كثيرة أهمها قبيلة "بني عطية" و"الحويطات".
وفي الوقت الحالي، يسكن المنطقة قبيلتا "الزلابية" و"الزوايدة" التي تعود في الأصل إلى قبيلة "عنزة الوائلية" إضافة إلى عائلات من قبائل أخرى من "الحويطات".
والحديث يمتد لما يتميز به سكان المنطقة بمحافظتهم على عاداتهم وتقاليدهم البدوية واللباس العربي وتربية الإبل.
ولأنهم يحبون حلَهم وترحالهم وطبيعته الخلابة، أخذ أبناء البادية يُرددون على مسامع السياح قول أحد الشعراء الذين تغنوا بالوادي، فقال:
ووفق رئيس مجلس مفوضي سلطة منطقة العقبة، ناصر الشريدة، بلغ عدد السياح الذين زاروا منطقة وادي "رم"، العام الماضي، 81 ألف و988 سائحا، من إجمالي 157 ألف و71 وصلوا مطار الملك الحسين الدولي في العقبة،
بنسبة زيادة مقدارها 10 بالمائة عن العام 2015 الذي شهد 74 ألف و861 زائرا من مختلف الجنسيات من إجمالي 119 ألف و890 مسافرا وصلوا المطار نفسه.
الخيمة البدوية.. أحد أهم معالم وادي رم.. خيمةٌ فُرشت بسجاد عليها فرش ووسائد محشوة بالصوف وأوبار الإبل، وبنادق عُلقت على أعمدتها، يتوسطها موقد للنار يستدفئ الضيوف من حطبه المتجمر، ويرتشفون رحيق قهوته التي هي
سيدة مجالس البدو ورفيقة وحدتهم وعنوان كرمهم.
أجواءٌ تأذن للأصدقاء ورفاق الصدفة في الصحراء بإحياء ليالي السمر والاندماج معاً والاستئناس بالأحاديث والذكريات والسوالف.
ليلةُ سمر لا تنتهي بدون تتاول الطعام المطهي داخل برميل وُضع في باطن الأرض.
"الزرب" أو ما يُعرف لدى البعض بـ"الماندي" تلك الأكلة الصحراوية الشهيرة التي كان يلجأ إليها البدو بسبب ندرة الماء وعدم توفر أواني الطبخ.
طريقةٌ بسيطةٌ جداً، تتمثل في حفرة بطول ذراع أو ذراعين وتكون في الأسفل أوسع منها في الأعلى ويملؤونها بالأعواد ثم يشعلون فيها النار وعندما تصبح الحفرة ساخنة جداً ولا يبقى إلا الجمر يوزعونه في القاع بشكل منتظم ويضعون اللحم عليه،
وأسفلها قدر مفتوح به أرز ينساب عليه الدهن.
لتبدأ مرحلة إغلاق الحفرة بصينية ومن ثم الردم بالرمال، وبعد حوالي ساعة ونصف أو ساعتين، ينفضون الطمي لإخراج اللحم الذي نضج وتقديمه للضيوف ليستمتعون بمذاقه الطيب.
وبعد أن تكون البطون قد فرغت من جوعها، ينكسر صمت الليل بجلسة عربية ترقص وتغنى على أنغام "السامر" و"الدحية"، حول موقد تتراقص نيرانه بفعل الهواء، وسط سعادة طفولية تمتطي آلة الزمن لتعود للوراء قروناً.
جلسةٌ تأخذ ضيفها رغم صخبها في حالة من التأمل مع نجوم الليل التي تشعر أنها تغمز للجبال وكأنهما في جلسة سمر مع الحالمين على الأرض.
ولأن الوقت أكثر قسوة على رفاق الصحراء من فلسطينيين وأردنيين وجزائريين وسنغافوريين وفرنسيين، إلا أن الجميع غادر بعد أن أصبح زاده ثمين المتعة، يتذكره بكل تفاصيله.
وتقع منطقة وادي "رم" التي تبلغ مساحتها 74 ألف هكتار، جنوبي الأردن بالقرب من الحدود مع السعودية وهي عبارة عن صحراء متنوعة التضاريس تشمل مجموعة من الأودية الضيقة والأقواس الطبيعية والمنحدرات الشاهقة والطرق المنحدرة،
فضلاً عن أكوام كبيرة من الصخور المنهارة وعدد من الكهوف.
ووضعتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم "اليونسكو" على قائمة التراث العالمي كموقع مختلط للطبيعة والثقافة.الاناضول