أخبار الأردن اقتصاديات دوليات وفيات برلمانيات أحزاب مجتمع وظائف للأردنيين أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات مقالات مختارة مستثمرون شهادة الموقف مناسبات جاهات واعراس جامعات بنوك وشركات خليجيات مغاربيات دين اخبار خفيفة ثقافة رياضة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

قرقودة تكتب: فِي وَدَاعِ الضَّجِيجِ… لَا فِي وَدَاعِ العَامِ


تغريد جميل قرقودة

قرقودة تكتب: فِي وَدَاعِ الضَّجِيجِ… لَا فِي وَدَاعِ العَامِ

مدار الساعة ـ

نِهَايَةُ العَامِ لَيْسَتْ عَدًّا تَنَازُلِيًّا لِلْأَيَّامِ، وَلَا طَقْسًا عَاطِفِيًّا نُمَارِسُهُ لِنُوهِمَ أَنْفُسَنَا بِأَنَّ التَّغْيِيرَ سَيَحْدُثُ تِلْقَائِيًّا. إِنَّهَا لَحْظَةٌ هَادِئَةٌ وَعَمِيقَةٌ، تُشْبِهُ انْسِحَابَ البَحْرِ قَبْلَ المَدِّ؛ سَاكِنَةٌ فِي ظَاهِرِهَا، لَكِنَّهَا تُعِيدُ رَسْمَ الشَّاطِئِ مِنَ الدَّاخِلِ. فِي هٰذَا التَّوَقُّفِ الخَفِيِّ، نَكْتَشِفُ أَنَّ العَامَ لَا يَنْتَهِي لِأَنَّهُ اكْتَمَلَ زَمَنِيًّا، بَلْ لِأَنَّهُ تَرَكَ فِينَا أَثَرًا لَا يُرَى، وَلٰكِنَّهُ يُحَسُّ، وَيُغَيِّرُ طَرِيقَةَ تَفْكِيرِنَا، وَوَزْنَ مَشَاعِرِنَا، وَمَعْنَى أَوْلَوِيَّاتِنَا.

لَمْ تَعُدْ نِهَايَةُ العَامِ مُجَرَّدَ مَحَطَّةٍ زَمَنِيَّةٍ، بَلْ مُرَاجَعَةً دَاخِلِيَّةً شَامِلَةً. تَغَيَّرْنَا قَبْلَ أَنْ تَتَغَيَّرَ الأَيَّامُ، وَتَبَدَّلَتِ اهْتِمَامَاتُنَا دُونَ ضَجِيجٍ أَوْ إِعْلَانٍ. مَا كَانَ يُقْلِقُنَا بِالأَمْسِ فَقَدَ ثِقَلَهُ، وَمَا كُنَّا نُطَارِدُهُ بِشَغَفٍ صَارَ عِبْئًا عَلَى الرُّوحِ. هُنَا تَبْدَأُ النِّهَايَاتُ الحَقِيقِيَّةُ: لَا حِينَ يَتَبَدَّلُ المَشْهَدُ، بَلْ حِينَ تَتَبَدَّلُ زَاوِيَةُ النَّظَرِ، وَحِينَ نَرَى الأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ، لَا كَمَا اعْتَدْنَا أَنْ نُبَرِّرَهَا.

فِي لَحْظَةِ صِدْقٍ نَادِرَةٍ، نُدْرِكُ أَنَّ القَلْبَ لَا يَطْلُبُ الكَثِيرَ؛ إِنَّهُ يَطْلُبُ الصِّدْقَ فَقَطْ. صِدْقَ الشُّعُورِ حِينَ يَتْعَبُ، وَصِدْقَ المَسَافَةِ حِينَ تَضِيقُ، وَصِدْقَ الِاخْتِيَارِ حِينَ نَصْمُتُ لِأَنَّ الكَلَامَ لَمْ يَعُدْ يُنْقِذُ شَيْئًا. فِي هٰذَا الهُدُوءِ العَمِيقِ نَتَعَلَّمُ أَنَّ بَعْضَ الِانْسِحَابَاتِ لَيْسَتْ هَزِيمَةً، بَلْ عَوْدَةً حَكِيمَةً إِلَى الذَّاتِ، وَأَنَّ التَّخَفُّفَ مِنَ الضَّجِيجِ شَكْلٌ نَاضِجٌ مِنْ أَشْكَالِ الحُبِّ… حُبِّ النَّفْسِ أَوَّلًا، ثُمَّ الحَيَاةِ.

نَكْتَشِفُ، بِهُدُوءٍ، أَنَّنَا نُقَلِّلُ عَدَدَ الأَشْخَاصِ حَوْلَنَا لَا قَسْوَةً وَلَا جَفَاءً، بَلْ حِفَاظًا عَلَى تَوَازُنِنَا الدَّاخِلِيِّ. لَمْ نَعُدْ نَبْحَثُ عَنْ كَثْرَةِ العَلَاقَاتِ، بَلْ عَنْ صِدْقِهَا؛ عَنْ حُضُورٍ لَا يُرْهِقُنَا بِتَفْسِيرِ أَنْفُسِنَا، وَلَا يَسْتَنْزِفُ طَاقَتَنَا فِي مُجَامَلَاتٍ فَارِغَةٍ. نُصْبِحُ أَكْثَرَ شَجَاعَةً حِينَ نَخْتَارُ الصَّمْتَ لِأَنَّهُ أَرْحَمُ، وَالِابْتِعَادَ لِأَنَّهُ أَقَلُّ كُلْفَةً عَلَى الرُّوحِ، وَنُدْرِكُ أَنَّ الِاخْتِيَارَ فِي هٰذِهِ المَرْحَلَةِ فِعْلُ نُضْجٍ لَا رَدَّةُ فِعْلٍ.

أَمَّا البَحْثُ عَنْ مَسَاحَةٍ خَالِيَةٍ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سِوَى الرَّاحَةِ، فَلَمْ يَعُدْ تَرَفًا عَابِرًا، بَلْ حَاجَةً وُجُودِيَّةً. مَسَاحَةٌ بِلَا اقْتِحَامٍ، بِلَا تَبْرِيرٍ، بِلَا ضَجِيجٍ دَخِيلٍ عَلَى السَّلَامِ الدَّاخِلِيِّ. مَسَاحَةٌ نَسْتَعِيدُ فِيهَا أَنْفُسَنَا كَمَا هِيَ، لَا كَمَا يُرَادُ لَهَا أَنْ تَكُونَ. هُنَاكَ، يُصْبِحُ الهُدُوءُ قَرَارًا وَاعِيًا، وَتَغْدُو العُزْلَةُ الصِّحِّيَّةُ شَكْلًا رَاقِيًا مِنْ أَشْكَالِ الوَعْيِ، لَا انْسِحَابًا مِنَ الحَيَاةِ، بَلْ عَوْدَةً نَاضِجَةً إِلَيْهَا.

وَمَعَ الوَقْتِ، نَكْتَشِفُ أَنَّ السَّلَامَ الدَّاخِلِيَّ لَا يَأْتِي دَفْعَةً وَاحِدَةً، بَلْ يُبْنَى كَمَا تُبْنَى البُيُوتُ القَدِيمَةُ: حَجَرًا مِنْ صَبْرٍ، وَنَوَافِذَ مِنْ فَهْمٍ، وَأَبْوَابًا تُغْلَقُ بِرِفْقٍ. نَكْبُرُ حِينَ نَخْتَارُ مَا يُشْبِهُنَا، وَنَهْدَأُ حِينَ نَتَوَقَّفُ عَنْ إِرْضَاءِ الجَمِيعِ، وَنَصِيرُ أَكْثَرَ إِنْسَانِيَّةً حِينَ نَمْنَحُ أَرْوَاحَنَا حَقَّ الرَّاحَةِ دُونَ خَوْفٍ أَوْ تَبْرِيرٍ.

نِهَايَةُ العَامِ، فِي جَوْهَرِهَا، لَيْسَتْ وَدَاعًا لِلْوَقْتِ، بَلْ تَصْحِيحًا لِلْمَضْمُونِ: كَيْفَ نَعِيشُ، وَمَعَ مَنْ نَعِيشُ، وَلِمَاذَا نَمْنَحُ انْتِبَاهَنَا لِمَا لَا يَسْتَحِقُّهُ. إِنَّهَا لَحْظَةٌ نُعِيدُ فِيهَا تَرْتِيبَ أَفْكَارِنَا، وَتَنْظِيفَ أَرْوَاحِنَا مِنْ ضَجِيجٍ فَائِضٍ، وَنَتَصَالَحُ مَعَ حَقِيقَةٍ بَسِيطَةٍ وَعَمِيقَةٍ فِي آنٍ وَاحِدٍ: أَنَّنَا نَكْبُرُ حِينَ نَتَخَفَّفُ، وَنَنْضُجُ حِينَ نَخْتَارُ رَاحَتَنَا دُونَ شُعُورٍ بِالذَّنْبِ.

هٰكَذَا تَنْتَهِي السَّنَةُ، لَا بِضَجِيجِ الِاحْتِفَالَاتِ، بَلْ بِهُدُوءِ الفَهْمِ. نُغَادِرُهَا أَخَفَّ حِمْلًا، أَوْضَحَ رُؤْيَةً، وَأَكْثَرَ جُرْأَةً عَلَى اخْتِيَارِ المَسَاحَةِ الَّتِي تُشْبِهُنَا. لَسْنَا بِحَاجَةٍ إِلَى عَامٍ جَدِيدٍ بِقَدْرِ حَاجَتِنَا إِلَى عَقْلٍ أَهْدَأَ، وَنَفْسٍ أَصْدَقَ، وَحُدُودٍ تَحْمِي سَلَامَنَا الدَّاخِلِيَّ.

فَبَعْضُ النِّهَايَاتِ لَا تُغْلِقُ أَبْوَابَ الزَّمَنِ… بَلْ تَفْتَحُ الإِنْسَانَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ جَدِي

مدار الساعة ـ