طالما كان الفن مرآةً للمجتمع، ووسيلةً راقيةً لطرح قضاياه وهمومه، وأداةً فعّالةً في تشكيل الوعي المجتمعي؛ فالفن الحقيقي لا يقتصر على كونه وسيلةً للتمثيل والترفيه فقط، بل يحمل في باطنه رسالةً إنسانيةً مهمةً وأعظم، تعبّر عن آمال الناس وتطلعاتهم، وتسلّط الضوء على مشكلاتهم وتناقضاتهم، وتسهم في إثارة الفكر وتحفيز الحوار، مما يجعله عنصرًا أساسيًا في بناء مجتمع واعٍ ومثقف.
في الآونة الأخيرة، ولا سيما مع تصاعد تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، بات الفن يأخذ منحًى مختلفًا، ويحيد عن جوهره الحقيقي المتمثل في الرسالة السامية؛ إذ دخل إلى عالم التمثيل أشخاص لا يمتلكون موهبةً حقيقية ولا رؤية فنية، سوى شهرةٍ صنعتها منصات التواصل الاجتماعي، ومحتوى سطحي يفتقر إلى الهدف والمعنى.هذا التحول أفرز حالةً من الخلل في معايير الفن، حيث باتت الشهرة الرقمية تُقدَّم على الكفاءة، وأصبح "الترند" المعيار الأساسي لتقييم الفنان، على حساب الموهبة الحقيقية والإبداع. والأسوأ من ذلك أن هذا الواقع همّش فنانين حقيقيين حملوا الفن كرسالة، وآمنوا بدوره الجوهري في التعبير عن هموم المواطن وخدمة المجتمع.وعند الحديث عن الفن الحقيقي، لا بد من الإشارة إلى ما شهدته الساحة الأردنية من أعمال فنية هادفة، سواء على شاشة التلفزيون أو على خشبة المسرح. ومن أبرز هذه النماذج المشرفة المسرحية الشهيرة "الآن فهمتكم"، التي استخدمت الكوميديا كأداة نقد ذكية لتشريح الواقع الاجتماعي والسياسي، وطرح القضايا اليومية للمواطن بلغة بسيطة وقريبة من الناس، دون إسفاف أو ابتذال.لقد نجح المسرح الأردني، من خلال أعمال كهذه، في ترسيخ فكرة أن الفنان ليس مهرّجًا، بل مثقفًا يحمل همّ المجتمع، ويقف على خشبته مدافعًا عن قضاياه، حتى في ظل الإمكانيات المحدودة. وكان الجمهور شريكًا واعيًا، يتفاعل مع الرسالة، ويدرك قيمة ما يُقدَّم له.إن خطورة ما آل إليه الفن اليوم لا تقتصر على المستوى الفني فحسب، بل تمتد لتؤثر في وعي الأجيال الجديدة، التي قد تظن أن الشهرة السهلة هي الطريق الوحيد للنجاح، وأن الجهد والتدريب والمعرفة أمور ثانوية لا أهمية لها. ومن هنا تبرز الحاجة الملحّة إلى إعادة الاعتبار للفن الهادف، ودعم المواهب الحقيقية، وترسيخ دور الفن كقوة توعوية تسهم في بناء الإنسان والمجتمع، لا كوسيلة عابرة للانتشار والشهرة.بني مصطفى تكتب: الفن بين الرسالة والترند.. حين تهمش الموهبة
مدار الساعة ـ