أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات مجتمع وظائف للأردنيين أحزاب أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات مقالات مختارة جاهات واعراس مستثمرون شهادة الموقف مناسبات جامعات بنوك وشركات خليجيات مغاربيات دين اخبار خفيفة ثقافة رياضة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

حدادين يكتب: حين تتحول الظواهر الطبيعية إلى خطاب سياسي


المحامي الدكتور يزن دخل الله حدادين

حدادين يكتب: حين تتحول الظواهر الطبيعية إلى خطاب سياسي

مدار الساعة ـ

في كل مرة تشهد المنطقة ظاهرة طبيعية، تظهر بعض التصريحات التي تعتمد على أيديولوجيا عاطفية، مع الاحترام للجميع، تنتقد الواقع وتصف الأحداث وكأنها رسائل سياسية من السماء، لكنها لا تقدم حلولاً، ولا ترتبط بأي برنامج وطني واضح.

هذه القراءة العاطفية للظواهر المناخية تستهلك المشهد العام وتحوّله إلى مادة للتعبير اللحظي عن الانفعال، دون أن تقود إلى فهم حقيقي للتحديات أو إلى استراتيجيات قابلة للتطبيق. وهنا يطرح السؤال نفسه: إذا كانت الأمطار والظواهر الجوية تُقرأ سياسياً، فلمن تُوجَّه الأمطار المتواصلة التي تشهدها دول الغرب طوال فصل الشتاء؟ وعلى من تُحمَّل العواصف والفيضانات التي تضرب شرقاً وغرباً بلا تمييز؟ وهل يمكن اختزال الظواهر المناخية، التي يفسرها العلم بدقة متزايدة، في منطق الانفعال العاطفي فقط؟

هذه الأسئلة لا تُطرح من باب الجدل، ولا بقصد البحث عن أخطاء أو تحميل مسؤوليات، بل لأنها تكشف عن ميلٍ متزايد لتحويل السياسة إلى مساحة للانفعال العاطفي، حيث تُستدعى الظواهر الطبيعية لتأدية دور رمزي يخدم خطاباً آنياً. وحين يصبح المطر موقفاً، والطقس رسالة، نكون قد غادرنا منطق الدولة إلى منطق التعبئة الشعورية، وهو منطق قد يريح العاطفة لكنه لا يبني وعياً عاماً ولا يساهم في ترسيخ فهم عقلاني لطبيعة التحديات التي تواجه الدول. فالسؤال الحقيقي ليس ماذا يعني المطر سياسياً، بل لماذا نُصرّ على قراءة الواقع بلغة الرغبة لا بلغة العقل؟

الإشكالية الأعمق في هذا النوع من “الفتاوى السياسية” أنها تُبسّط المشهد أحياناً، وتحوّل القضايا العامة إلى مادة للاستهلاك العاطفي، بدل أن تكون مدخلاً للنقاش الرصين. فالدولة الحديثة لا تُدار بالرموز العابرة، ولا بالقراءات الغيبية للواقع، بل بالقدرة على الفصل بين القيم الروحية والسياسة كحقل عقلاني تحكمه المصالح والوقائع والتخطيط طويل الأمد. وحين يختلط هذا الفصل، يصبح الوعي العام أحياناً أسير لحظة انفعالية، سهلة الاشتعال وسريعة الزوال.

الأردن، بحكم موقعه الجغرافي وحساسية بيئته الإقليمية، لا يملك ترف الانزلاق إلى هذا النوع من الخطاب. فنحن أمام دولة تحتاج إلى خطاب يهدّئ العقول لا أن يستنفر العواطف، ويطرح الأسئلة الصعبة بدل الاكتفاء بالإجابات السهلة. ما الذي نريده من السياسة؟ هل نريدها مساحة لتفريغ الغضب المشروع، أم أداة لبناء موقف وطني متماسك قادر على الصمود في وجه الأزمات؟ وهل تخدم هذه القراءات العاطفية فكرة الدولة، أم تضعفها عبر إحلال الرمز مكان الفعل؟

من هنا تبرز أهمية ما أكّد عليه جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين مراراً، حين دعا إلى الاعتماد على الذات، وعلى الداخل، وعلى الناتج الوطني، باعتبار ذلك خياراً استراتيجياً لا شعاراً ظرفياً. هذه الدعوة لا تنفصل عن نقد الخطاب العاطفي، بل تشكّل نقيضه الطبيعي. فهي دعوة إلى تحويل الطاقة الوطنية من الانفعال إلى الإنتاج، ومن التفسير إلى الفعل، ومن انتظار الرسائل إلى صناعة القرار.

الأردن لا يحتاج إلى شحن وجداني دائم، بقدر ما يحتاج إلى عمل جماعي منظم، وإلى وعي سياسي يدرك أن قوة الدولة تُبنى من الداخل: اقتصاد متماسك، بيئة استثمار جاذبة، ثقة بالمؤسسات، ورؤية واضحة للمستقبل. هذه هي اللغة التي تحمي الأوطان، لا لغة إسقاط المعاني السياسية على الغيم والمطر.

في النهاية، ليست المشكلة في التعاطف مع القضايا العادلة، بل في تحويل السياسة إلى مساحة للعاطفة وحدها. فالأوطان لا تُدار بالإحساس فقط، ولا تُحصَّن بالخطاب، بل تُبنى بالعقل والتخطيط والتنفيذ وتستمر بالعمل. والأردن اليوم أحوج ما يكون إلى هذا التوازن: وعيٌ لا ينفصل عن الواقع، وموقفٌ لا يُغريه التبسيط، ودولةٌ تعرف أن السماء تمطر للجميع، أما البناء والتنفيذ فمسؤولية البشر. كما نشكر الله عز وجل على نعمة الأمطار في الأردن، ونسأله أن يكون موسمًا مطريًا غزيرًا ومباركًا على كل أرض الأردن العظيم.

مدار الساعة ـ