منذ أن أرسى النظام العالمي الجديد قواعده وأركانه بعد انقضاء الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما خلّفتاه من جرائم حرب وأحداث فظيعة ألقت بظلالها على مختلف الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وما صاحب تلك الحروب من ويلات ودمار وإبادات، بأنواعها الإثنية والجماعية، من قتلٍ للبشر، وترويعٍ للآمنين، وحرقٍ للكتب، وغيرها من صور التخريب؛ بدأت الدول المسيطرة والمتنفذة، قياسًا بما عاناه العالم من آثار تلك الحروب، ببسط أدوات جديدة للسيطرة.
وقد تميّزت هذه الأدوات بابتعادها عن فوهات المدافع؛ إذ إن الدول، وإن كانت تتوق إلى التوسع وبسط النفوذ، إلا أن الطرق العسكرية تجعل جميع الأطراف خاسرة. فاليوم قام النظام العالمي على أسس فكرية تُبرز مخالبها لدسّ السموم في عقول البشر، على اختلاف أطيافهم ومنابتهم وأقاليمهم. وتتمثل هذه الأدوات في العلمانية، والليبرالية، والإمبريالية، والديمقراطية، التي تناولناها في مقالات سابقة.إن الفكر يخاطب عقول الناس ويتحكم بها، وهذه العقول ترتكز إلى منظومة من القيم والمبادئ والقناعات التي تستمد جذورها من أسس دينية مختلفة. ومن خلال بحثي المستفيض في التاريخ العالمي والعربي والإسلامي، وجدت أن هذا النظام، بأركانه، لقي قبولًا عالميًا، ولا سيما أوروبيًا، قياسًا بما عاشته أوروبا من اضطهاد في العصور الوسطى على يد الكنيسة التي كانت تمثل موروثهم الديني، من صكوك الغفران ومجابهة التقدم العلمي. وقد مهّد ذلك الطريق للعلمانية التي اجتاحت أقطار أوروبا كافة، حتى باتت الدول الأوروبية اليوم دولًا لا تعترف بدين، ولا بأيديولوجيات تقودها، قياسًا بالآلام التي ذاقوها جرّاء القوميات الأيديولوجية التي حكمت في القرن الماضي، كالنازية والفاشية.أما عالمنا العربي الإسلامي، فقد بدأت هذه الحملات العلمانية منذ تسعينيات القرن الماضي وما قبلها، حيث انطلقت بحملات استهدفت اللغة، بوصفها هوية الأمة، إضعافًا ونهشًا، ثم تعدّت ذلك إلى حركات إمبريالية استعمارية ناهضت القوميات العربية والإسلامية، وبثّت التفرقة وعزّزتها، حتى جرى تشريع اتفاقيات تقسيم، كاتفاقيات لوزان، وسايكس ـ بيكو، وبلفور، التي هشّمت ومزّقت أوتار الصبغة الإسلامية الجامعة.واليوم، وفي ظل طريقٍ معبّد أمامهم، تتعاظم هذه الحملات العلمانية عبر مجموعة من البرامج، كـ«نتفلكس» وغيرها، التي تندرج ضمن مفهوم حروب الجيل الخامس، بهدف دسّ السموم الفكرية التي تطال الأجيال الإسلامية التي راهن عليها الإسلام كثيرًا. فهي محتويات مدمّرة، وحملات شملت المناهج الدراسية، وعوامل اجتمعت لتُخرج جيلًا ضعيفًا، فاقدًا للبوصلة إلى أمجاده.وبفعل هذه العوامل مجتمعة، أحكمت السلطات العالمية المتنفذة قبضتها فكريًا، عبر تعرية الأفكار وإغلاق العقول. وحتى نواجه ونتصدى لهذه الأدوات، لا بد من إقامة منهجية فكرية في مرحلة التمايز الفكري، تكون سببًا في صهر هذه التحديات، وبناء كيان فكري يساهم في استعادة الألق والأمجاد. ولا بد لهذه المنهجية الفكرية من قاعدة إسلامية تُبنى عليها دعائمها، وتُعاد لها الحيوية والبريق.فكلٌّ منا على ثغرٍ من ثغور الإسلام، يعمل لدينه من موقعه، وبيته، ومسقط رأسه؛ فالصلاح يبدأ بالنفس، بنهيها عن غيّها، ثم ينعكس ذلك على كل ما حولها.حين تُدار الحروب بلا مدافع: سطوة الفكر في النظام العالمي الجديد
مدار الساعة ـ