لم تَعُد الذاكرة الثقافيّة مبادرةً عابرة أو مسألةً أرشيفيّة تقنيّة في مرحلة التحوّل الرقمي السريع التي نعيشها، بل أصبحت قضيّة سيادة ثقافيّة وهويّة وطنيّة بامتياز. فالسؤال اليوم ليس إن كنّا بحاجة إلى رقمنة ذاكرتنا، بل متى نفعل ذلك، وكيف، وبأيّ سرد سنقدّمه للأجيال القادمة وللعالم. وإذا نظرنا إلى بعض التجارب العربيّة في هذا المجال، نجد أنّ الذاكرة الرقميّة ليست مسارًا واحدًا، بل استجابات مختلفة لهشاشة مشتركة عنوانها الخوف من النسيان والضياع، أو من كتابة التاريخ من خارج سياقه أو أصواته الأصليّة.
وقد قدّمت قطر نموذجًا مبكّرًا للذاكرة الرقميّة التي تحوّلت إلى قوّة ناعمة، وأداة استراتيجية، ومصدر موثوق للبحث العلمي والتعلّم بجميع أشكاله. ففي عام 2014 أطلقت قطر مكتبتها الرقميّة بوصفها أوّل مشروع عربي واسع النطاق، قدّم رؤية معرفيّة سياديّة أعادت تعريف العلاقة بين الوثيقة والتاريخ والجمهور، وجعلت الذاكرة متاحة بلغتين، وضمن معايير أرشيفيّة علميّة وشراكات مؤسّسيّة راسخة. وفي المقابل، اختارت دولة الإمارات العربيّة المتحدة مسارًا مختلفًا في التعامل مع الذاكرة الرقميّة، إذ لم تُبنَ على منصّة واحدة جامعة، بل على منظومة من مؤسّسات تعمل بتكامل منذ منتصف العقد الماضي. فتطوّرت الأرشيفات الوطنيّة، ومراكز الوثائق التاريخيّة، والمتاحف، والمبادرات الأكاديميّة، بما يضمن حفظ الوثيقة والمكان والسرد المحلّي، ويؤسّس لاستدامة الذاكرة عبر الزمن، وإن جاء التحوّل الرقمي تدريجيًا.وعلى النقيض من تجارب دول الخليج العربي، التي يمكن القول إنها انطلقت من فائض الإمكانات والاستقرار المؤسّسي، جاءت تجربة السودان من موقع الهشاشة واختلال المشهد الثقافي. ففي ظل ضعف البنية التكنولوجيّة وتراكم الأزمات السياسيّة والاقتصاديّة، أصبحت الوثائق والصور والأفلام والأرشيفات التاريخيّة مهدّدة بالفقد المادي. من هنا انطلقت مبادرة "ذاكرة السودان" (Sudan Memory) بين عامي 2017 و2018 كمشروع إنقاذ ثقافي، قاده باحثون ومؤسّسات ثقافيّة بدعم دولي، بهدف حماية الذاكرة الوطنيّة وإتاحتها رقميًا قبل فوات الأوان. والمفارقة هنا أن السودان لم يُرقمِن لأنه متقدّم تكنولوجيًا، بل لأنه مدرك بعمق لخطر ضياع ذاكرته، فتحوّلت الرقمنة من خيار تقني إلى مسؤوليّة أخلاقيّة وفعل بقاء.وضمن هذا المشهد العربي المتنوّع، دخل الأردنّ خلال العامين الأخيرين مرحلة أكثر وضوحًا ووعيًا في بناء ذاكرته الرقميّة، ضمن إطار مؤسّسي تقوده وزارة الثقافة الأردنيّة. ففي الرابع من أيلول 2024 أُطلقت منصّة "ثقافة" بوصفها فضاءً رقميًا جامعًا ينظّم المشهد الثقافيّ الأردنيّ، ويعرض الإنتاج الثقافيّ، ويربط المبدعين بالجمهور، ويؤسّس لحضور رقميّ منظّم للثقافة الوطنيّة. ثم جاءت الخطوة الأكثر تخصّصًا ودلالة في الثاني والعشرين من كانون الأوّل 2025، مع إطلاق منصّة "تراثي"، التي تركّز على حفظ وتوثيق التراث الثقافيّ الأردنيّ، ولا سيما التراث غير الماديّ بما يشمله من موسيقى وأهازيج وحِرَف وممارسات ثقافيّة حيّة.تكمن أهميّة التجربة الأردنيّة في هذا الانتقال الواعي من عرض الثقافة إلى توثيقها، ومن التغطية الآنيّة إلى الحفظ طويل الأمد، ومن المحتوى العام إلى السرديّة الفنيّة والذاكرة الإنسانيّة. فالأردنّ لا يواجه تحدّي حفظ الوثيقة فقط، بل حفظ الصوت والحركة والممارسة الثقافيّة أيضًا، وهي عناصر أشدّ قابليّة للفقد وأعقد في التوثيق، لكنها الأكثر تعبيرًا عن الهويّة. وبهذا المعنى، يلتقي النموذج الأردنيّ مع التجربة السودانيّة في الدافع الثقافي، ومع التجارب الخليجيّة في الإطار المؤسّسي، ما يمنحه فرصة فريدة لبناء نموذج عربي متوازن للذاكرة الرقميّة.وتُجمع هذه التجارب، على اختلاف سياقاتها، على أن الرقمنة لم تعد خيارًا تقنيًا، بل ضرورة ثقافيّة تحمي التراث من التلف والنسيان، وتثبّت السرديّة الوطنيّة من الداخل، وتنقل الذاكرة إلى الجيل الرقميّ بلغته، وتحوّل التراث إلى مورد معرفيّ وتعليميّ حيّ. ومع ذلك، لم تكن الطريق خالية من التحدّيات، إذ واجهت الدول صعوبات تقنيّة وبشريّة وماليّة، وأسئلة أخلاقيّة تتعلّق بالملكيّة الثقافيّة وحق السرد وحدود الإتاحة، وهي تحدّيات قد يواجهها الأردن أيضًا، خاصّة في ما يتعلّق بتوثيق التراث غير الماديّ وضمان استدامة المشاريع الرقميّة.تكشف خريطة الذاكرة الرقميّة العربيّة في النهاية أن الرقمنة لا تبدأ دائمًا من القوّة، بل كثيرًا ما تنطلق من الخوف على الذاكرة. وبين الريادة المؤسّسيّة، وبناء المنظومات، ومنطق الإنقاذ، يقف الأردنّ اليوم أمام فرصة حقيقيّة لتحويل منصّتي "ثقافة" و"تراثي" إلى مشروع وطنيّ متكامل ومستدام، يحفظ السرديّة الفنيّة والإنسانيّة من الداخل، ويقدّمها للعالم بثقة ومسؤوليّة. فالذاكرة التي لا تُحفظ اليوم، قد لا نجدها غدًا إلا في أرشيف الآخرين.عباسي تكتب: عندما تصبح الرقمنة فعلَ بقاء ثقافي
د. هبة عباسي
قسم الموسيقى - كليّة الفنون والتصميم - الجامعة الأردنيّة
عباسي تكتب: عندما تصبح الرقمنة فعلَ بقاء ثقافي
د. هبة عباسي
قسم الموسيقى - كليّة الفنون والتصميم - الجامعة الأردنيّة
قسم الموسيقى - كليّة الفنون والتصميم - الجامعة الأردنيّة
مدار الساعة ـ