أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات مجتمع وظائف للأردنيين أحزاب أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات مقالات مختارة جاهات واعراس مستثمرون شهادة الموقف مناسبات جامعات بنوك وشركات خليجيات مغاربيات دين اخبار خفيفة ثقافة رياضة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

الفرجات يكتب: عندما كانت أوروبا تغرق بالظلمات، عالم عربي رسم خارطة العالم بدقة عالية


أ.د محمد الفرجات

الفرجات يكتب: عندما كانت أوروبا تغرق بالظلمات، عالم عربي رسم خارطة العالم بدقة عالية

مدار الساعة ـ
الفرجات يكتب: عندما كانت أوروبا تغرق

في زمنٍ كانت فيه أوروبا ما تزال تعيش ظلال العصور الوسطى، ويختلط فيها الخيال بالأسطورة في تفسير العالم، ظهر عالم عربي من الأندلس ليضع واحدة من أدق وأشمل خرائط العالم في التاريخ الوسيط؛ إنه الشريف أبو عبد الله محمد الإدريسي، الاسم الذي ما يزال حاضرًا في علم الجغرافيا والخرائط حتى يومنا هذا.

الإدريسي: عالم لا مجرد رسّام خرائط:

وُلد الإدريسي عام 1100م في سبتة، ونشأ في بيئة علمية أندلسية ثرية، قبل أن يستقر في بلاط الملك روجر الثاني في صقلية.

ولم يكن الإدريسي مجرد ناقل للمعلومات، بل كان عالِمًا نقديًا يرفض الروايات غير الموثوقة، ويُخضع الأخبار الجغرافية للمقارنة والتحقق، وهو منهج علمي متقدم جدًا بمعايير عصره.

خريطة العالم: إنجاز علمي غير مسبوق

في عام 1154م، أنجز الإدريسي عمله الأشهر: خارطة العالم الإدريسية، التي نُقشت على لوح من الفضة الخالصة، ورافقتها موسوعة جغرافية ضخمة حملت عنوان "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق". لم تكن الخريطة مجرد رسمٍ للأرض، بل كانت نظامًا معرفيًا متكاملًا يصف:

تضاريس الأقاليم

المناخ

الطرق التجارية

المدن والموانئ

الموارد الاقتصادية

توزيع السكان

وقد قسّم الإدريسي العالم إلى سبعة أقاليم مناخية، وكل إقليم إلى عشرة أقسام طولية، في تصور قريب جدًا من المفاهيم الجغرافية الحديثة.

الجنوب في الأعلى: اختلاف الرؤية لا ضعف المعرفة

من أكثر ما يثير دهشة القارئ المعاصر أن خريطة الإدريسي وضعت الجنوب في الأعلى والشمال في الأسفل. وهذا لم يكن خطأ، بل اختيارًا علميًا وثقافيًا شائعًا في الجغرافيا العربية آنذاك، يعكس اختلافًا في زاوية النظر لا في دقة المعلومة.

وعند قلب الخريطة رأسًا على عقب، تتجلى دقة مذهلة في تمثيل:

البحر المتوسط

سواحل أوروبا

شمال أفريقيا

الجزيرة العربية

بلاد الشام

دقة مدهشة قياسًا بزمنه عند مقارنة خريطة الإدريسي بخرائط أوروبية معاصرة لها، يظهر الفرق جليًا:

بينما كانت أوروبا تمزج الأساطير بالواقع، قدّم الإدريسي تصورًا واقعيًا قائمًا على:

رحلات ميدانية

شهادات بحّارة وتجار

مراجعة نقدية للروايات

إسقاط جغرافي متناسق

لهذا السبب، بقيت خرائط الإدريسي مرجعًا أساسيًا لمدة تقارب ثلاثة قرون، واعتمد عليها الأوروبيون حتى بدايات عصر الكشوف الجغرافية.

الإدريسي… الأب غير المعلن للجغرافيا الحديثة

لا تكمن أهمية الإدريسي فقط في أنه رسم خارطة للعالم، بل في أنه:

أسّس لمنهج علمي في الجغرافيا

ربط المكان بالاقتصاد والإنسان

سبق مفاهيم الجغرافيا الإقليمية

مهّد، دون أن يدري، لعلم نظم المعلومات الجغرافية (GIS) القائم على تقسيم المكان وتحليل خصائصه

لماذا نعيد قراءة الإدريسي اليوم؟

في عصر الأقمار الصناعية والخرائط الرقمية، تعيدنا تجربة الإدريسي إلى سؤال جوهري:

كيف يمكن للعقل البشري، حين يتحرر من الخرافة ويتسلح بالمنهج، أن يسبق أدواته التقنية؟

الإدريسي لم يمتلك أقمارًا صناعية ولا نظم GPS، لكنه امتلك ما هو أعمق:

العقل النقدي، والجرأة العلمية، واحترام المعلومة.

نعم، الإدريسي رسم خارطة للعالم، لكنها لم تكن مجرد خريطة؛ كانت بيانًا علميًا حضاريًا يؤكد أن الجغرافيا العربية الإسلامية لم تكن هامشًا في تاريخ العلم، بل كانت في قلبه.

وحين نعيد اليوم قراءة أعمال الإدريسي، فإننا لا نحتفي بالماضي فحسب، بل نستعيد درسًا جوهريًا:

العلم لا يُقاس بزمنه، بل بصدقه ومنهجه.

مدار الساعة ـ