مدار الساعة (معهد السياسة والمجتمع) -
الملخص التنفيذييشهد الأردن توسعا حضريا وديموغرافيا متسارعا ما أدى إلى ضغوط متزايدة على البنية التحتية، وموارد المياه والطاقة، وشبكات النقل، وجودة الحياة الحضرية. وفي هذا السياق، طُرح مشروع مدينة عمرة كأحد أكبر التدخلات التخطيطية المقترحة لإعادة توجيه النمو السكاني والاقتصادي خارج المركز التقليدي، وكسر نمط “الرأس الواحد” للعاصمة، من خلال إنشاء مركز حضري جديد شرق عمّان.تعتمد هذه الورقة على تحليل شامل للمشروع من حيث دوافعه التخطيطية، ونموذجه المؤسسي والمالي، وخيارات التخطيط الحضري، والتحديات الهيكلية التي تواجهه، بالاستناد إلى بيانات الموازنة العامة، ومعطيات الشركة الأردنية لتطوير المدن والمرافق، ونقاشات السياسات المتخصصة. ويُظهر التحليل أن الحاجة التخطيطية لمدينة جديدة باتت واقعية في ظل الاختناقات الحضرية القائمة، إلا أن نجاح المشروع لا يرتبط بجدواه النظرية، بل بقدرته على معالجة مجموعة من التحديات الجوهرية.وتبيّن الورقة أن النموذج المؤسسي الحالي، القائم على الشركة الأردنية لتطوير المدن والمرافق، يوفر مرونة تشغيلية مهمة، لكنه يثير في الوقت ذاته تساؤلات تتعلق بالحوكمة، وتعدد مراكز القرار، وتوزيع المسؤوليات، واستمرارية المشروع على المدى الطويل. كما أن الاعتماد الكبير على الشراكات مع القطاع الخاص واستثمار قيمة الأرض يجعل المشروع حساسا لتقلبات التمويل وثقة المستثمرين.وفي ضوء تحليل السيناريوهات المستقبلية، تشير الورقة إلى وجود ثلاثة مسارات محتملة لتطور المشروع:الأول، تحقيق سيناريو متفائل تتحول فيه مدينة عمرة إلى قطب حضري جديد مستدام في حال توافر التمويل، واكتمال مشاريع المياه والنقل.الثاني، وهو السيناريو الأرجح، يتمثل في نمو بطيء وتحول المدينة إلى فضاء محدود السكن نتيجة تنفيذ الحد الأدنى من المرافق وتأخر عناصر الجذب السكني والنقل الجماعي عالي السعة.أما السيناريو الثالث، فينطوي على مخاطر التعثر وتحول المشروع إلى عبء مالي في حال شح السيولة، أو تعثر المشاريع الاستراتيجية، أو تغيّر الأولويات الحكومية.بناء على ذلك، تميل هذه الورقة إلى ترجيح مسار التأجيل المرحلي المشروط وإعادة تصميم الحوكمة والتمويل قبل التوسع السكاني الواسع، بوصفه الخيار الأقل كلفة استراتيجية على المدى الطويل. ويقترن هذا المسار بالانتقال من منطق “المطور العقاري” إلى منطق “صانع التنمية”، عبر تخطيط اقتصادي متكامل، ونموذج حوكمة مستقل وواضح، وتنفيذ مرحلي مرتبط بمؤشرات أداء، مع إعطاء أولوية للبعد الاجتماعي وتوفير المعلومات اللازمة لتقييم المخاطر والعوائد بشكل شفاف.وتخلص الورقة إلى أن التحدي الحقيقي لا يكمن في بناء مدينة جديدة بحد ذاته، بل في بناء قرار طويل الأمد قادر على الصمود سياسيا وماليا واجتماعيا، بحيث لا يتحول المشروع بعد سنوات إلى عبء على الدولة أو مصدر فقدان للثقة العامة في سياسات التخطيط الحضري.المقدمة لم يعد التوسع الحضري في الأردن ظاهرة يمكن التعامل معها بوصفها امتدادا طبيعيا للنمو السكاني، بل تحوّل إلى تحدٍّ هيكلي يمس قدرة الدولة على التخطيط طويل الأمد، وكفاءة البنية التحتية، وجودة الحياة في المدن الكبرى. فقد أدى التركز السكاني المتزايد في عمّان والزرقاء إلى نمط حضري غير متوازن، تستحوذ فيه المدينتان على الحصة الأكبر من السكان والأنشطة الاقتصادية والخدمات، بما يفوق القدرة الاستيعابية لشبكات النقل والمياه والطاقة والأراضي، ويولّد ضغوطا متراكمة لم تعد الحلول الجزئية أو التحسينات التشغيلية كافية لمعالجتها. ومع استمرار هذا الاتجاه، بات واضحا أن إدارة الأزمة من داخل المركز لم تعد خيارا مستداما، وأن الدولة تواجه ضرورة إعادة توجيه مسار النمو الحضري بدل الاكتفاء باحتواء آثاره.في هذا السياق، يبرز مشروع مدينة عمرة بوصفه محاولة سياساتية لكسر نمط “الرأس الواحد” للعاصمة، وإعادة توزيع التوسع العمراني نحو الشرق، حيث تتوافر مساحات أرض أقل كلفة، وإمكانية تأسيس بنية تحتية حديثة من نقطة الصفر، بعيدا عن الأعباء العقارية والتشغيلية التي تعيق أي توسع داخل عمّان. ويتعزز منطق المشروع بموقعه الجغرافي، إذ تتموضع المدينة على بعد نحو أربعين كيلومترا شرق عمّان، وعلى تقاطع طرق دولية حيوية تربط الأردن بكل من المملكة العربية السعودية والعراق، ما يمنحها ميزة تنافسية محتملة لتؤدي دورا لوجستيا إقليميا في ظل الحديث المتزايد عن مشاريع الربط الإقليمي، وحركة التجارة العابرة، وإعادة الإعمار في دول الجوار. وبهذا المعنى، لا تُطرح مدينة عمرة كامتداد عمراني فحسب، بل كجزء من تصور أشمل لإعادة توظيف الموقع الجغرافي للأردن ضمن سلاسل القيمة الإقليمية.غير أن المشروع، منذ الإعلان عنه، أثار نقاشا يتجاوز جدواه التخطيطية إلى طبيعته الوظيفية وهوية المدينة المقترحة. فبينما تؤكد الحكومة أن مدينة عمرة ليست عاصمة إدارية بديلة، تتضمن الخطط نقل بعض المؤسسات الحكومية والمرافق العامة بوصفها مشاريع محركة تهدف إلى خلق زخم أولي. ويعكس هذا التداخل رغبة في الاستفادة من مزايا نقل بعض الوظائف الإدارية لتخفيف الضغط عن عمّان، دون تحمّل الكلفة السياسية والرمزية لإعلان عاصمة جديدة، لكنه في الوقت ذاته يطرح سؤالا جوهريا حول قدرة المدينة على التحول إلى فضاء حضري حيّ يستقطب السكن والعمل والحياة اليومية، لا أن تتحول إلى مدينة وظيفية نهارية تعتمد على الحركة الإدارية فقط، بما يحد من قدرتها على تحقيق الهدف الديموغرافي الأساسي للمشروع.على المستوى المؤسسي، اختارت الدولة تنفيذ المشروع تحت إشراف الشركة الأردنية لتطوير المدن والمرافق، بصفتها ذراعا تنفيذية مرنة تعمل بموجب قانون الاستثمار، بما يسمح بفصل ملكية الأرض العامة عن إدارة التطوير والاستثمار، وتجاوز القيود البيروقراطية التقليدية، وتسريع طرح العطاءات والدخول في شراكات استثمارية. ويمنح هذا النموذج مرونة تشغيلية أعلى مقارنة بالإدارة الحكومية المباشرة، لكنه في المقابل يفتح تساؤلات تتعلق بحدود المساءلة، وتوزيع المسؤولية، وطبيعة الرقابة في مشروع طويل الأمد تتداخل فيه أدوار الدولة، والقطاع الخاص، وصناديق استثمارية عامة.وتزداد حساسية هذه التساؤلات في ظل الواقع المالي القائم، إذ تشير التقديرات إلى أن الحيز المتاح للإنفاق الرأسمالي الحر في الموازنة العامة لا يتجاوز نحو 140 مليون دينار أردني، وهو مبلغ لا يكفي لتغطية متطلبات البنية التحتية الأولية لمشروع بحجم مدينة عمرة، فضلا عن ضمان استدامته على المدى المتوسط. ويعني ذلك عمليا أن التمويل الحكومي المباشر ليس خيارا واقعيا، وأن المشروع يعتمد بصورة شبه كاملة على نماذج تمويل بديلة، تقوم على استثمار قيمة الأرض، والشراكات مع القطاع الخاص، وصيغ البناء والتشغيل والنقل. ويترتب على هذا الاعتماد ارتفاع درجة المخاطر، إذ إن أي عزوف من المستثمرين، أو ارتفاع في كلف التمويل، قد يؤدي إلى تجميد المشروع لغياب بديل حكومي قادر على سد الفجوة التمويلية.أما على مستوى التخطيط، فقد تبنّت مفاهيم المدينة الذكية والتنمية الحضرية المستدامة، من خلال تقسيم المدينة إلى مناطق وظيفية متكاملة تشمل السكن، والعمل، والترفيه، والتعليم. ويعكس هذا التوجه انسجاما مع أحدث اتجاهات التخطيط الحضري المعاصر، إلا أنه يطرح في الوقت ذاته تساؤلات حول مدى مواءمته للسياق الاجتماعي والثقافي المحلي، خصوصا إذا ما طُبِّق بصيغة هندسية معيارية لا تراعي خصوصية المجتمع الأردني القائم على شبكات القرابة والجيرة وأنماط التفاعل الاجتماعي اليومية. وتكمن المخاطرة في أن يتحول التخطيط إلى تمرين هندسي محض، يعيد إنتاج نماذج حضرية ناجحة في سياقات أخرى، لكنها قد لا تفضي بالضرورة إلى مدينة قابلة للحياة اجتماعيا على المدى الطويل.وتقوم استراتيجية التنفيذ الأولي على ما يُعرف بالمشاريع المحركة، التي تهدف إلى خلق وجهة وزخم مبكر للمدينة قبل اكتمال الكثافة السكانية، من خلال تطوير المدينة الرياضية والاستاد الدولي، ومركز للمعارض والمؤتمرات، ومناطق ترفيهية وحدائق بيئية، إلى جانب نقل بعض المراكز الإدارية. ورغم أهمية هذه المشاريع في وضع المدينة على الخريطة، فإن نجاحها يبقى مرهونا بقدرتها على التحول من عناصر جذب ظرفية إلى مكونات داعمة لحياة حضرية متكاملة، لا أن تبقى جزرا معزولة تفتقر إلى قاعدة سكنية واجتماعية مستقرة.وعليه، لا يُطرح مشروع مدينة عمرة في هذه الورقة بوصفه مشروعا عمرانيا تقنيا، بل كقرار سياساتي عالي الأثر، تنطوي عليه التزامات طويلة الأمد قد يصعب التراجع عنها بعد الشروع في التنفيذ. فنجاح المشروع لا يتوقف على جودة التصميم أو حجم الاستثمار، بقدر ما يتوقف على حسم مبكر لنموذج الحوكمة، وتوزيع المخاطر، والوظيفة الحضرية للمدينة، بما يمنع تحوّلها مستقبلا إلى عبء مالي أو مدينة معزولة عن محيطها الاجتماعي والاقتصادي.
المنطق المالي والاقتصادي لمشروع مدينة عمرة: بين مقاربة خلق القيمة وجدلية التطوير العقاري
ينطلق المنطق الاقتصادي لمشروع مدينة عمرة من مقاربة غير تقليدية للاستثمار العام، تقوم على تحويل أصل منخفض القيمة – أو عديم القيمة السوقية في وضعه السابق – إلى أداة تنموية يُفترض أن تولّد قيمة اقتصادية تراكمية على المدى المتوسط والطويل، بدل التعامل معه كعبء مالي أو أصل خامد. فالأرض التي أُقيم عليها المشروع لم تكن، قبل تدخل الدولة، تتمتع بقيمة استثمارية حقيقية من حيث الموقع أو الجاهزية أو الطلب السوقي. غير أن تدخل الدولة، بصفتها فاعلًا اقتصاديًا تأسيسيًا، أعاد تعريف هذه القيمة وأدخلها ضمن معادلة جديدة للاستخدام الاقتصادي للأصول العامة.أولا: منطق خلق القيمة من أصل منخفض الجدوىتعتمد هذه الفلسفة على مبدأ اقتصادي جوهري مفاده أن القيمة لا تُكتشف فقط، بل تُصنَع. فقيام الحكومة باستخدام أدواتها المؤسسية والمالية للاستثمار في الأرض، عبر توظيف أموال وطنية (ومنها أموال الضمان الاجتماعي) ضمن إطار قانوني منضبط، لا يُعد مغامرة مالية بقدر ما هو إعادة توظيف لرأس المال الوطني في أصول طويلة الأجل. وبهذا المعنى، فإن المشروع لا يضيف عبئا جديدا على الاقتصاد، بل يعيد تدوير موارد قائمة في نشاط إنتاجي مستقبلي.ثانيا: دور الاستثمار العام كأداة تحفيز للسوقيُفهم إصرار الحكومة على تمويل المرحلة الأولى من المشروع بأموال حكومية على أنه دور تحفيزي تأسيسي، لا دور إقصائي للقطاع الخاص. فالمرحلة الأولى لا تستهدف تحقيق عوائد مالية فورية، بل تهدف إلى:• رفع القيمة السوقية للأرض نفسها.• خلق بيئة استثمارية موثوقة.• تقليل المخاطر الأولية التي عادة ما تُبعد المستثمرين، ولا سيما الأجانب.وبذلك، تقوم الدولة بدور «المستثمر الأول» الذي يتحمّل كلفة الانطلاق، ليُفسح المجال لاحقا أمام استثمارات خاصة تدخل في مراحل أقل مخاطرة وأكثر وضوحا.ثالثا: التطوير المرحلي وبناء الجاذبية الاستثماريةتركّز المرحلة الأولى من المشروع على أربعة مكونات رئيسية:1. مركز دولي للمعارض والمؤتمرات (2027) 2. مدينة ترفيهية عالمية (2028) 3. مدينة رياضية متكاملة (2029) 4. حديقة بيئية، مدينة تعليمية، ومراكز تكنولوجية. هذه المكونات لا تُبنى باعتبارها مشاريع منفصلة، بل كمنظومة واحدة ترفع القيمة الكلية للمكان، وتُسهم في خلق طلب تلقائي على الأراضي المحيطة، وترفع أسعارها بشكل عضوي، لا مصطنع.رابعا: البنية التحتية والنقل كعناصر تعزيز للقيمةتتعامل الفلسفة الاقتصادية للمشروع مع البنية التحتية - ولا سيما المواصلات - باعتبارها أداة إنتاج للقيمة وليست مجرد خدمة عامة. فربط المشروع بشبكات نقل فعّالة ينعكس مباشرة على:• تسهيل الحركة الاقتصادية.• تقليص كلف التشغيل.• رفع جاذبية الموقع للمستثمرين والمستخدمين النهائيين.وبالتالي، تتحول كلفة البنية التحتية إلى استثمار غير مباشر في رفع أسعار الأراضي وتعزيز الجدوى الاقتصادية للمراحل اللاحقة.خامسا: الأثر المتوقع على الدورة الاقتصادية المحليةلا تقتصر الفلسفة الاقتصادية للمشروع على جذب رؤوس الأموال، بل تمتد إلى بناء دورة اقتصادية محلية تشمل:• استقطاب العمالة.• تنشيط الطلب على الخدمات.• تحفيز الصناعات الداعمة، ولا سيما في مجالات اللوجستيات والتصنيع الخفيف.ويُعزَّز هذا التوجه عبر اشتراط إشراك شركات محلية ومصانع وطنية في سلاسل التوريد، بما يحول المشروع من مجرد تطوير عقاري إلى منصة تنموية ذات أثر اقتصادي ممتد.سادسا: الانتقال إلى مرحلة الاستثمار الخاص والأجنبيمع اكتمال المرحلة الأولى وارتفاع القيمة السوقية للأراضي، تدخل المرحلة الثانية بطبيعتها المختلفة، حيث يصبح المستثمر - ولا سيما الأجنبي - أكثر استعدادا للدخول في المشروع، ليس على أساس الوعود، بل على أساس قيمة قائمة ومخاطر منخفضة. في هذه المرحلة، تكون الدولة قد أدت دورها التأسيسي، ونجحت في خلق سوق حقيقية، لا افتراضية.مع اكتمال المرحلة الأولى وارتفاع القيمة السوقية للأراضي، تدخل المرحلة الثانية بطبيعتها المختلفة، حيث يصبح المستثمر - ولا سيما الأجنبي - أكثر استعدادا للدخول في المشروع، ليس على أساس الوعود، بل على أساس قيمة قائمة ومخاطر منخفضة. في هذه المرحلة، تكون الدولة قد أدت دورها التأسيسي، ونجحت في خلق سوق حقيقية، لا افتراضية. وتنتقل العلاقة بين القطاعين العام والخاص من منطق التحفيز الأولي إلى منطق الشراكة الاستثمارية المتكافئة، حيث يُبنى القرار الاستثماري على مؤشرات ملموسة تشمل جاهزية البنية التحتية، واستقرار البيئة التنظيمية، ووضوح الطلب الفعلي. كما تسمح هذه المرحلة بتنوّع أنماط الاستثمار ونوعية المستثمرين، وتوسيع قاعدة المشاركة الرأسمالية، بما يعزز تنافسية المشروع وقدرته على الاستدامة، ويحوّل التوسع العمراني من مشروع تديره الدولة إلى منظومة اقتصادية ديناميكية تقودها قوى السوق ضمن إطار حوكمي منضبط.على الرغم من الاتساق النظري للمنطق الاقتصادي الذي تطرحه الحكومة، فإن هذا النموذج لا يخلو من إشكاليات تستدعي نقاشًا نقديًا جادًا. فثمة وجهة نظر ترى أن جوهر المشروع، في حال غياب الضمانات المؤسسية والتخطيط الاقتصادي المتكامل، قد ينزلق من كونه أداة لإعادة هيكلة النمو الحضري إلى نمط متقدم من تجارة الأراضي العامة، حيث يتم رفع قيمة الأرض عبر تدخل الدولة ثم نقلها تدريجيًا إلى السوق دون تحقيق التحول الديموغرافي والإنتاجي المعلن.ويعزز هذا القلق غياب مؤشرات واضحة حتى الآن على أن النشاط الاقتصادي المنتج – وليس التطوير العقاري – سيكون هو المحرّك الأساسي للمدينة في مراحلها الأولى. ففي تجارب مقارنة عديدة، تحوّلت مشاريع مشابهة إلى مساحات استثمارية عالية القيمة المالية، لكنها محدودة التأثير الاجتماعي والديموغرافي، ما أفرغها من بعدها التنموي طويل الأمد.في المقابل، تؤكد الحكومة أن هذا الطرح يتجاهل طبيعة التدخل المرحلي، وأن الاستثمار في الأرض ليس هدفًا بحد ذاته، بل وسيلة لتمويل البنية التحتية وخلق بيئة جاذبة للأنشطة الاقتصادية، في ظل قيود مالية حادة لا تسمح بالتمويل التقليدي. ومن هذا المنظور، ترى الدولة أن إعادة توظيف قيمة الأرض هو الخيار الأقل كلفة استراتيجية مقارنة باستمرار الضغط على المدن القائمة أو التوسع غير المنضبط.وعليه، لا يمكن حسم هذا الجدل لصالح أحد المنظورين بصورة مسبقة، إذ يتوقف توصيف المشروع – كرؤية استراتيجية أو كتطوير عقاري موسّع – على كيفية التنفيذ لا على منطق الطرح فقط. فالفارق الجوهري بين المسارين يكمن في:• أولوية الاستثمار المنتج على العائد العقاري،• ربط التوسع العمراني بمؤشرات سكانية واقتصادية حقيقية،• وجود حوكمة مستقلة تمنع اختزال المشروع في تعظيم قيمة الأرض على حساب الوظيفة الحضرية.من دون ذلك، يبقى المشروع عرضة لإعادة تعريفه لاحقًا من قبل السوق، لا من قبل الدولة، بما قد يقوّض الهدف التنموي الذي أُعلن من أجله.يُضاف إلى ما سبق سؤال جوهري لا يمكن لأي تقييم اقتصادي جاد أن يتجاهله، وهو: من هو المستفيد النهائي من هذا النموذج؟ فبينما يُطرح المشروع رسميًا بوصفه استثمارًا طويل الأجل يهدف إلى تعظيم قيمة الأصول العامة، ولا سيما أموال الضمان الاجتماعي، فإن طبيعة الأدوات المستخدمة في خلق القيمة تفتح المجال أمام تفاوت محتمل بين الجهة المالكة للأصل، والجهات التي قد تجني العوائد الأكبر في الممارسة الفعلية.فعلى المستوى النظري، يُفترض أن يستفيد صندوق الضمان الاجتماعي، باعتباره مستثمرًا مؤسسيًا طويل الأجل، من ارتفاع قيمة الأراضي والعوائد المرتبطة بها، بما يعزز استدامته المالية ويخدم المشتركين فيه. غير أن التجارب المقارنة تشير إلى أن هذا النوع من المشاريع قد يفضي، في غياب أطر حوكمة صارمة وآليات توزيع شفافة للعوائد، إلى تركّز المكاسب في مراحل مبكرة لدى مطورين أو شركاء محددين، بينما تتحمل الجهات العامة مخاطر البنية التحتية والتمويل طويل الأمد.وتكمن الإشكالية هنا ليس في إشراك القطاع الخاص بحد ذاته، بل في عدم وضوح آليات تقاسم المخاطر والعوائد، وتوقيت خروج بعض المستثمرين مقارنة بدورة الاستثمار الطويلة التي تلتزم بها المؤسسات العامة كصندوق الضمان. فإذا لم تُصمَّم العقود بطريقة تضمن احتفاظ الدولة والمؤسسات العامة بالحصة الأكبر من القيمة المضافة المتحققة على المدى الطويل، فإن المشروع قد يتحول فعليًا إلى قناة لإعادة توزيع القيمة من المال العام إلى أطراف محدودة، حتى وإن تم ذلك ضمن أطر قانونية شكلية.من هذا المنظور، يصبح النقاش حول مشروع مدينة عمرة أقل ارتباطًا بجدوى خلق القيمة، وأكثر ارتباطًا بعدالة توزيع هذه القيمة. فالمعيار الحقيقي لنجاح المشروع لا يتمثل فقط في ارتفاع أسعار الأراضي أو جذب الاستثمارات، بل في الإجابة الواضحة عن سؤال: هل تعود العوائد المتحققة بصورة مستدامة إلى المؤسسات العامة والمجتمع الأوسع، أم تتركز في يد فئة محدودة من الشركاء والمستفيدين الأوائل؟إن معالجة هذا السؤال تتطلب شفافية استباقية في نماذج الشراكة، وحدودًا واضحة لدور أموال الضمان الاجتماعي، وآليات رقابة مستقلة تضمن أن يبقى المشروع أداة تنموية وطنية، لا مجرد عملية تطوير عقاري ذات رابحين محددين وخاسر عام غير مرئي.مقارنة بين نموذجين في تطوير مدن جديدة:
مدينة الملك عبدالله الاقتصادية ونيفيه إيلانمدينة الملك عبدالله الاقتصادية (السعودية) - نموذج إيجابيالسياق السياسي والاقتصادي للتأسيسأُعلن عن مدينة الملك عبدالله الاقتصادية عام 2005 بدعم سياسي مباشر ضمن توجه استراتيجي يهدف إلى تنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على النفط. اختير موقع المدينة على ساحل البحر الأحمر قرب جدة، وعلى مساحة واسعة، بما يسمح ببناء مركز اقتصادي متكامل. أُسند تطوير المدينة إلى شركة خاصة ضمن شراكة بين القطاعين العام والخاص، في إطار رؤية تستهدف إنشاء مدينة تجمع بين الصناعة والخدمات واللوجستيات والسكن والترفيه، وتندرج ضمن برنامج وطني أوسع لإنشاء مدن اقتصادية جديدة.مراحل التنفيذركّزت المراحل الأولى من التنفيذ على بناء البنية التحتية السيادية باعتبارها شرطا لجذب الاستثمار. شمل ذلك إنشاء ميناء تجاري متقدم بوصفه العمود الفقري للنشاط اللوجستي، إلى جانب تطوير مناطق صناعية مخصصة للصناعات الثقيلة والخفيفة. بعد ذلك، جرى التوسع في تطوير أحياء سكنية متنوعة ومرافق خدمية وترفيهية تهدف إلى استقطاب السكان. كما جرى ربط المدينة بشبكة النقل الوطنية، بما في ذلك السكك الحديدية، لتعزيز سهولة الوصول ودمجها في الاقتصاد الوطني. اعتمدت الحوكمة على نموذج المناطق الاقتصادية الخاصة، مع تسهيلات تنظيمية وتشغيلية لجذب الشركات المحلية والأجنبية. هذا التسلسل، الذي قدّم البنية التحتية والوظيفة الاقتصادية على السكن، شكّل أساسا متينا لنمو المدينة.التحديات الكبرىرغم الدعم السياسي وتوافر الموارد، واجه المشروع تحديات في جذب الأعداد المستهدفة من السكان والاستثمارات بالسرعة المتوقعة. فقد كان انتقال الشركات والأفراد أبطأ من المخطط، وتأثر المشروع بالظروف الاقتصادية العالمية وتنافس مشاريع إقليمية مشابهة. كما شكّل جذب السكان الدائمين تحديا مستمرا بسبب حداثة البيئة العمرانية وطبيعة المدن الجديدة عموما. في مواجهة ذلك، جرى تعديل الاستراتيجيات، وتعزيز الحوافز الاستثمارية، وتنشيط التسويق، والاستفادة من المزايا التنافسية للبنية التحتية القائمة.المخرجات الحالية (حالة المدينة اليوم)على الرغم من التأخر عن الأهداف الطموحة الأصلية، تحولت مدينة الملك عبدالله الاقتصادية تدريجيا إلى مدينة حية تضم مرافق اقتصادية وصناعية ولوجستية فاعلة، إضافة إلى مناطق سكنية وخدمات تعليمية وصحية وترفيهية. نجحت المدينة في استقطاب استثمارات جديدة تتماشى مع التوجهات الصناعية الحديثة، وبدأت تلعب دورا متناميا في سلاسل الإمداد والصناعة. كما أسهم الربط الجيد بشبكات النقل في تعزيز اندماجها مع المدن الرئيسية. وبذلك، تمثل المدينة نموذجا إيجابيا نسبيا لمدينة جديدة قيد التطور المستمر، أثبتت أن البناء التدريجي القائم على البنية التحتية والحوكمة المرنة يمكن أن ينتج مدينة قابلة للحياة، حتى وإن كان النمو أبطأ من التوقعات الأولى.نيفيه إيلان (إسرائيل) - نموذج سلبيالسياق السياسي والاقتصادي للتأسيستأسست نيفيه إيلان في منتصف أربعينيات القرن الماضي في سياق سياسي وأمني، بوصفها مستوطنة تعاونية تهدف إلى تأمين محور استراتيجي قرب القدس، لا كمشروع اقتصادي أو حضري متكامل. بدأت التجربة بجماعة صغيرة في موقع جبلي ذي ظروف معيشية صعبة، واعتمدت منذ نشأتها على دوافع أمنية أكثر من كونها قائمة على رؤية تنموية طويلة الأمد.مراحل التنفيذمرت تجربة نيفيه إيلان بمرحلتين رئيسيتين. في المرحلة الأولى، أُنشئت كمجتمع تعاوني زراعي، لكنها واجهت صعوبات اقتصادية واجتماعية كبيرة، ما أدى إلى تفكيك التجمع وإخلائه خلال أقل من عقد. بعد فترة طويلة من الإهمال، أُعيد إحياء الموقع في السبعينيات كنموذج تعاوني سكني أكثر انفتاحا، مع بناء مساكن جديدة ومحاولات لإيجاد أنشطة اقتصادية بديلة. أُضيف لاحقا فندق سياحي وبعض المنشآت المتخصصة، ثم تطور نشاط إعلامي محدود شكّل العمود الفقري للاقتصاد المحلي. رغم ذلك، لم يشهد الموقع أي توسع حضري حقيقي، وبقي أقرب إلى تجمع سكني صغير منه إلى مدينة متكاملة.التحديات الكبرىعانت نيفيه إيلان من غياب المقومات الاقتصادية والتمويلية والمؤسسية اللازمة لبناء مدينة قابلة للنمو. في مرحلتها الأولى، أدى ضعف القاعدة الاقتصادية والعزلة الجغرافية إلى فشل التجربة بالكامل. وفي المرحلة الثانية، ورغم تحسن البنية الأساسية، ظل التحدي الأكبر هو جذب السكان والاستثمارات في ظل محدودية فرص العمل المحلية وقرب مدن أكبر توفر بدائل أفضل. كما حدّت الطبيعة الجغرافية والمخاطر البيئية من إمكانيات التوسع العمراني، في حين عكس تهميش الموقع في الخطط الإقليمية ضعف مكانته التنموية على المدى الطويل.المخرجات الحالية (حالة البلدة اليوم)لم تتحول نيفيه إيلان إلى مدينة حية، بل بقيت تجمعا صغيرا محدود التأثير، بعدد سكان متواضع ونشاط اقتصادي متخصص وضيّق. يعتمد اقتصادها على عدد محدود من المرافق، فيما يعمل معظم السكان خارجها في مدن مجاورة، ما يجعلها أقرب إلى ضاحية سكنية ذات وظائف محدودة. وعلى الرغم من استمرارها كمجتمع مأهول، فإنها أخفقت في تحقيق أي من أهداف التحول إلى مركز حضري أو اقتصادي، لتصبح مثالا على تعثر مشاريع التجمعات الجديدة عندما تُطلق دون رؤية اقتصادية متكاملة أو دعم مؤسسي طويل الأمد.الدروس المستفادة لمشروع مدينة عمرة في الأردنتُظهر المقارنة بين النموذجين أن نجاح المدن الجديدة لا يرتبط بحجم الأرض أو الطموح السياسي، بل بجودة القرار التأسيسي وترتيب الأولويات. ففي النموذج الإيجابي، أسهمت الحوكمة المستقرة، والشراكة الواضحة بين القطاعين العام والخاص، وتأمين التمويل المتنوع، في الحفاظ على زخم المشروع رغم التحديات. أما في النموذج السلبي، فقد أدى غياب الرؤية الاقتصادية، وضعف الدعم المؤسسي، والعزلة الجغرافية، إلى تعثر التجربة وتحولها إلى تجمع محدود الوظيفة.بالنسبة لمشروع مدينة عمرة، تشير هذه المقارنة إلى أهمية اعتماد نموذج حوكمة مستقل وواضح، وتأمين مصادر تمويل مستدامة، وتقديم البنية التحتية السيادية والنشاط الاقتصادي المنتج على المشاريع الرمزية. كما تؤكد ضرورة تنفيذ المشروع بشكل مرحلي مرتبط بنتائج قابلة للقياس، وضمان الربط الوطني الفعلي في مجالات النقل والمياه والطاقة منذ المراحل الأولى. إن تجاهل هذه الدروس يرفع احتمالات التعثر، في حين أن استيعابها يضع المشروع على مسار مدينة قابلة للحياة، لا مجرد توسع عمراني مرتفع الكلفة.مخاطر السياسات Policy Risksنقاط الضعف والتحدياتأولا: المياه والطاقةيشكّل ملف المياه والطاقة التحدي الأكثر حساسية في مشروع مدينة عمرة، لأن أي خلل فيهما لا يمكن تعويضه لاحقا بحلول إدارية أو مالية. فالموقع الصحراوي للمدينة، مع معدلات هطول منخفضة جدا، يجعل الاعتماد على الموارد المحلية غير ممكن، ويضع المدينة في حالة اعتماد شبه كامل على مصادر خارجية منذ اليوم الأول. ويزيد من خطورة هذا الاعتماد أن المزود الرئيسي المخطط له، وهو مشروع الناقل الوطني، لم يدخل بعد حيز التشغيل ويواجه تحديات تمويلية وتنفيذية، ما يجعل الجدول الزمني لإنشاء المدينة مرتبطا بمشروع خارج سيطرتها المباشرة. كما أن المياه المحلاة تحمل كلفة إنتاج ونقل وتشغيل مرتفعة، ما يتطلب إدارة صارمة للطلب وتشريعات بناء ملزمة لضمان الاستدامة. وينسحب المنطق ذاته على الطاقة، إذ إن تشغيل مدينة ذكية يتطلب شبكة كهرباء عالية السعة والموثوقية، مع قدرات تخزين كافية لموازنة مصادر الطاقة المتجددة. ونظرا للترابط الوثيق بين الماء والطاقة، فإن أي ضعف في أحدهما سينعكس مباشرة على الآخر، ما يجعل هذا الملف منظومة واحدة لا يمكن تجزئتها في اتخاذ القرار.ثانيا: النقليمثل النقل العامل الحاسم في تحديد ما إذا كانت مدينة عمرة ستتحول إلى مدينة قابلة للحياة أم إلى فضاء حضري معزول. فالتجارب المقارنة تشير بوضوح إلى أن المدن الجديدة التي تعتمد على السيارات الخاصة تعاني ضعف الترابط الداخلي وارتفاع كلفة العيش، وتفشل في جذب السكان على المدى الطويل. ورغم أهمية ربط المدينة بالباص سريع التردد كحل أولي، إلا أن هذا الخيار وحده لا يتناسب مع حجم المدينة المستهدف ولا مع طبيعة المشاريع المحركة التي تتضمن فعاليات كبرى تولد طلبا كثيفا على النقل في فترات قصيرة. ويشكّل غياب ربط المدينة بشبكة سكك حديدية إقليمية مع عمّان والزرقاء ثغرة استراتيجية، قد تؤدي إلى اختناقات مرورية مزمنة أو إلى عزوف السكان عن السكن الدائم فيها. لذلك، فإن النقل يجب أن يُعامل كشرط تأسيسي للمدينة، لا كمرفق يُستكمل لاحقا.ثالثا: الاستمرارية السياسية والمؤسسيةتُظهر التجربة الأردنية أن المشاريع الكبرى طويلة الأمد تكون عرضة للتعثر عند تغيّر الحكومات وتبدّل الأولويات السياسية. وبما أن مشروع مدينة عمرة يمتد زمنيا لنحو 25 عاما، فإن نجاحه يتطلب إطارا مؤسسيا وسياسيا يضمن استمرارية القرار بغض النظر عن التغيرات الحكومية. إن غياب هذا الإطار يجعل المشروع هشا أمام التحولات السياسية، ويزيد من احتمالات التوقف أو إعادة التوجيه غير المدروس، ما يرفع كلفته ويقوض الثقة به على المدى الطويل.رابعا: نقص المعلومات والوضوحيشكّل نقص المعلومات التفصيلية حول المشروع تحديا جوهريا لصانع القرار والمستثمرين على حد سواء. فغياب دراسات جدوى اقتصادية واجتماعية وبيئية مكتملة ومعلنة، إلى جانب عدم توفر تصور تخطيطي تفصيلي ورؤية هيكلية واضحة، يحد من القدرة على تقييم المخاطر والعوائد بشكل موضوعي. كما أن هذا النقص في الشفافية يضعف ثقة المستثمرين ويجعل القرارات المتخذة أكثر عرضة للتقدير الشخصي بدل الاستناد إلى الأدلة.خامسا: نموذج المُلكية والاستمرارية المؤسسيةإن غياب نموذج واضح يحدد الجهة المالكة والممولة والمسؤولة عن المشروع يمثل أحد أخطر التحديات البنيوية. فمشروع بهذا الحجم لا يمكن رهن استمراريته بالحكومة وحدها في ظل تعاقب الحكومات، دون وجود إطار مؤسسي مستقل أو شراكات فاعلة مع القطاع الخاص. كما أن عدم وضوح الجهة التي تتحمل المسؤولية عند التعثر يضعف المساءلة ويزيد من المخاطر التنفيذية، ويؤثر سلبا على ثقة الشركاء المحتملين.سادسا: التحدي التشريعي والإداريتتطلب مشاريع المدن الكبرى بيئة تشريعية وإدارية مرنة وسريعة، بينما تعاني بيئة الاستثمار الحالية من تعقيد الإجراءات وتداخل الصلاحيات وضعف الإصلاح الإداري. ويؤدي هذا الواقع إلى بطء في اتخاذ القرار وارتفاع في كلفة التنفيذ، وهو ما يتعارض مع طبيعة المشاريع الحضرية الكبرى التي تعتمد على سرعة الإنجاز ووضوح المرجعيات المؤسسية لجذب المستثمرين والحفاظ على الزخم.سابعا: المخاطر السياسية والجيوسياسيةلا يمكن فصل مشروع مدينة عمرة عن السياق الإقليمي والسياسي غير المستقر الذي يعمل فيه الأردن. فأي تغير في الأولويات الوطنية أو في الظروف الإقليمية قد يؤثر مباشرة على تدفق التمويل، ووتيرة التنفيذ، وثقة المستثمرين. ومن دون تحصين المشروع بإطار قانوني ومؤسسي واضح يقلل من تأثير هذه التقلبات، يبقى معرضا لمخاطر تتجاوز الحسابات التخطيطية والمالية التقليدية.كما يبرز في هذا السياق سؤال “الوطن البديل” والتوطين بوصفه أحد المخاطر السياسية غير المعلنة، لكنه الحاضرة بقوة في الوعي العام والنقاش السياسي الأردني. فالمشاريع الحضرية الكبرى، ولا سيما تلك التي تُقام في مواقع جغرافية استراتيجية وقريبة من مراكز الثقل السكاني واللوجستي، قد تكون عرضة لتأويلات سياسية أو شعبية تربطها - بحق أو بغير حق - بمسارات إقليمية تتعلق بإعادة توطين اللاجئين أو إعادة هندسة الخريطة السكانية. إن غياب خطاب رسمي واضح، وإطار قانوني صريح يحدد وظيفة المشروع وحدوده السكانية والتنموية، قد يفتح المجال أمام هذه التأويلات، بما ينعكس سلبا على القبول المجتمعي، ويؤثر على ثقة الرأي العام والمستثمرين على حد سواء. وعليه، فإن تحصين مشروع مدينة عمرة يتطلب إدماجه بوضوح ضمن الرؤية الوطنية للتنمية الحضرية، والتأكيد الصريح على أنه مشروع تنموي-اقتصادي بحت، لا يحمل أي أبعاد ديموغرافية أو سياسية مرتبطة بملفات التوطين أو التسويات الإقليمية، بما يحول دون توظيفه في سجالات تمس جوهر الأمن الوطني الأردني واستقراره السياسي.نوافذ الفرص الاستراتيجيةأولا: الاستثمار في الأرض• امتلاك الدولة لكامل أراضي المشروع يمنحها قوة تفاوضية عالية مع المستثمرين والشركاء المحتملين.• الملكية العامة للأرض تتيح توجيه التخطيط الحضري دون ضغوط الملكيات الخاصة أو كلف الاستملاك.• يمكن استخدام الأرض كرافعة مالية (Land Value Capture) لجذب الاستثمارات دون الحاجة إلى إنفاق نقدي مباشر من الخزينة.• هذا النموذج يسمح بتقليل العبء المالي على الدولة مع الحفاظ على السيطرة الاستراتيجية على مسار التطوير.ثانيا: الفرص الاقتصادية• يمثل مشروع مدينة عمرة فرصة لجذب استثمارات طويلة الأمد قادرة على إحداث أثر ملموس في النمو والتشغيل.• المشروع يخلق تشبيكا بين قطاعات متعددة تشمل الإسكان، والخدمات، والسياحة، والترفيه، والنقل، والطاقة، ما يعزز الأثر الاقتصادي التراكمي.• يتيح تنويع مصادر الدخل الوطني عبر تطوير أنشطة اقتصادية جديدة مثل الخدمات اللوجستية، وسياحة الأعمال، والفعاليات الرياضية والترفيهية.• يوفر المشروع بيئة مناسبة لتطوير نماذج شراكة حقيقية بين القطاعين العام والخاص (PPP) تقوم على تقاسم المخاطر وربط العوائد بالأداء.• يمكن لمدينة عمرة أن تشكّل مختبرا وطنيا لإعادة تعريف نموذج الـPPP في الأردن، بما يعزز ثقة المستثمرين ويخفف الضغط عن الموازنة العامة.• يتيح التطوير من “صفحة بيضاء” تطبيق معايير متقدمة للبناء الأخضر، وكفاءة الطاقة، وتصميم بنية تحتية ذكية يسهل صيانتها، وهي فرص يصعب تحقيقها داخل المدن القائمة.ثالثا: تحريك الاقتصاد الكلي• يرتبط قطاع الإنشاءات بأكثر من 40 قطاعا صناعيا وخدميا، ما يجعل المشروع محفزا واسع الأثر للاقتصاد الوطني.• ضخ الاستثمارات في بناء مدينة جديدة يخلق آلاف فرص العمل المباشرة وغير المباشرة.• يمكن للمشروع أن يسهم في تحريك الاقتصاد الراكد، شريطة إعطاء أولوية للعمالة المحلية وسلاسل التوريد الوطنية.• الأثر الاقتصادي لا يقتصر على مرحلة البناء، بل يمتد إلى التشغيل والخدمات والأنشطة المرافقة على المدى الطويل.رابعا: الفرص الاجتماعية• يتيح المشروع إعادة تعريف مفهوم المدينة بوصفها فضاء للحياة والإنتاج، لا مجرد منتج عقاري.• يمكن لمدينة عمرة أن تدعم أنماط عيش متكاملة تجمع بين السكن والعمل والتعليم والترفيه.• يوفر المشروع فرصة لتعزيز المبادرات الريادية والاقتصاد المحلي، إذا ما أُدرج البعد الاجتماعي ضمن التخطيط منذ البداية.• نجاح المدينة اجتماعيا مرهون بقدرتها على استيعاب شرائح مختلفة من المجتمع، وتجنب التحول إلى مدينة نخبوية معزولة.خامسا: الفرص المؤسسية• يشكّل المشروع فرصة لإرساء نموذج حوكمة جديد لإدارة المدن الكبرى، يتجاوز تعدد المرجعيات وتداخل الصلاحيات.• إنشاء هيئة مستقلة بصلاحيات واضحة ومسؤوليات محددة يمكن أن يعزز كفاءة التنفيذ واستمرارية القرار.• يتيح المشروع تطوير نموذج وطني للتخطيط طويل الأمد ضمن أفق 20-30 عاما، يمكن تعميمه على مشاريع مستقبلية في النقل والإسكان والطاقة والتنمية الإقليمية.• يوفر فرصة لتوسيع الشراكة المؤسسية عبر إشراك نقابة المهندسين، والمعماريين، والأكاديميين، ومراكز البحث، إلى جانب القطاع الخاص كشريك استثماري وتشغيلي طويل الأمد.• تحويل هذه الفرص إلى واقع عملي يتطلب إرادة سياسية واضحة، وإطارا تشريعيا مرنا، ونموذج حوكمة قائما على الشراكة والمسؤولية.خيارات المسار السياسي Policy Pathwaysالسيناريو الأول: المدينة المستدامة والقطب الجديد (السيناريو المتفائل)الفرضيات:نجاح الحكومة في تأمين شراكات دولية طويلة الأمد، وتوفّر التمويل المستدام، وإنجاز مشروع الناقل الوطني، وربط المدينة بشبكة نقل جماعي عالي السعة عبر السكك الحديدية.النتيجة:في حال تحققت هذه الشروط مجتمعة، تتحول مدينة عمرة إلى مركز جذب حضري حقيقي، يستقطب ما بين 20% و30% من النمو السكاني المتوقع، ويتطور دورها كمركز إقليمي للمؤتمرات والفعاليات الرياضية والاقتصادية. ويسهم ذلك في تخفيف الضغط عن عمّان، وبناء نموذج حضري متكامل يمكن تعميمه في مشاريع مستقبلية. غير أن تحقق هذا السيناريو يبقى مشروطا بجهوزية مؤسسية وتمويلية عالية يصعب ضمانها في الأمد القصير دون إصلاحات موازية.السيناريو الثاني: النمو البطيء والمدينة “النهارية” (السيناريو الواقعي/المرجّح)الفرضيات:تنفيذ الحد الأدنى من المرافق الرمزية، مثل الاستاد أو بعض المباني الحكومية، مقابل تعثر أو بطء مشاريع الإسكان والنقل الجماعي عالي السعة، ولا سيما السكك الحديدية.النتيجة:تنمو المدينة بوتيرة بطيئة، مع تردد الأسر في الانتقال للسكن بسبب نقص الخدمات والربط الحضري، فتتحول إلى فضاء للعمل النهاري لموظفي القطاع العام، ومدينة شبه خاوية مساء. ويحد هذا السيناريو من قدرة المشروع على تخفيف الكثافة السكانية عن عمّان، ويُبقي الضغط الحضري قائما، مع تحقيق مكاسب سياسية محدودة دون أثر ديموغرافي حقيقي. ويُعد هذا السيناريو الأكثر احتمالا في حال الاستمرار بالنهج الحالي دون إعادة تصميم جوهرية.السيناريو الثالث: التعثر والعبء المالي (السيناريو المتشائم)الفرضيات:شح السيولة العالمية، أو توترات إقليمية، أو تعثر مشاريع المياه والطاقة، إلى جانب تغيّر أولويات الحكومة أو ضعف الاستمرارية المؤسسية.النتيجة:يتوقف المشروع بعد تنفيذ المرحلة الأولى، وتتحول المباني القائمة إلى جزر معزولة مرتفعة الكلفة التشغيلية والصيانة. وفي هذه الحالة، يصبح المشروع عبئا على خزينة الدولة، وتتراجع ثقة الجمهور بقدرة الحكومات على التخطيط طويل الأمد، بينما يستمر الزحام والضغط في المدن القائمة دون تحقيق أي من الأهداف المعلنة للمشروع.التأجيل كخيار سياساتي عقلانيلا تفترض هذه الورقة أن تنفيذ مشروع مدينة عمرة في توقيته الحالي هو الخيار الوحيد أو الحتمي أمام الدولة. بل ترى أن التأجيل المرحلي أو إعادة هيكلة المشروع قد يشكّل خيارا عقلانيا في حال عدم توافر الشروط الأساسية لنجاحه، وعلى رأسها الجاهزية المائية وشبكات النقل والحوكمة المؤسسية الواضحة. غير أن هذا التأجيل، إن تم، ينبغي أن يكون قرارا نشطا ومعلنا، يُستثمر في إصلاح الإطار التشريعي والمؤسسي، وليس حالة جمود تُبقي المشروع معلقا دون رؤية واضحة. فالتأجيل غير المنظم لا يقل خطورة عن التنفيذ المتسرع.وعليه نقدم التوصيات التالية:أولا - حزمة السياسات الخاصة بالتخطيط والبنية التحتية1. أولوية النقل بواسطة السكك الحديدية: يجب عدم المضي قدما في التوسع السكاني دون التزام قاطع وتمويل مؤمن لربط المدينة بشبكة سكك حديدية مع عمان والزرقاء. الباص السريع حل مؤقت لا يكفي لمدينة مليونية.2. الاستدامة المائية الصارمة: فرض كودات بناء ملزمة لجميع مباني المدينة تتضمن تجميع مياه الأمطار، ومعالجة المياه الرمادية في الموقع، واستخدام نباتات محلية في المساحات الخضراء لتقليل استهلاك المياه إلى الحد الأدنى.ثانيا - الحزمة المالية والاقتصادية1. تنويع المحفظة الاستثمارية: تجنب الاعتماد على مستثمر واحد أو قطاع واحد. المدينة تحتاج للتسويق في قطاع التكنولوجيا والتعليم والصحة، ولا يكفي أن يركز الناس على تسويق العقار فقط.2. أفكار جديدة في التمويل، مثل اصدار الصكوك السيادية، أو انشاء صناديق استثمار عقاري للمدينة موجهة للجميع وخصوصا المغتربين منهم، وهذه الفكرة تساعد في جمع السيولة المحلية، كما تساعد الناس في الشعور بأنهم جزء من المشروع.3. حماية أموال الضمان يعني أن الجهة تضع حدودا بسيطة لمخاطر استثمار صندوق الضمان في المشروع، هذا الأمر يساعد كل قرار يخص الاستثمار أن يقوم على دراسة من الناحية الاقتصادية، وليس بسبب ضغط سياسي من أي طرف.ثالثا - حزمة السياسات الاجتماعية وحوكمة الشركات1. الإسكان الميسر: تخصيص 25% من المشروع على الأقل في كل مشروع سكني، كشرط، للأشخاص من أصحاب الدخل المتوسط أو الدخل البسيط. هذه النسبة لها أسعار أقل أو يمكن أن تكون جزءا من برامج تمويل طويلة المدى، وهذا حتى يظل تنوع بين الناس في الإسكان، ولا يكون السكن لفئة واحدة فقط.2. مجلس استشاري مجتمعي: مأسسة المشاركة المجتمعية عبر تشكيل مجلس يضم ممثلين عن الشباب، وسكان المناطق المحيطة، والخبراء المستقلين، لمراقبة سير العمل وتقديم التغذية الراجعة، وضمان الشفافية في العقود والإنجاز.3. استراتيجية التكامل مع الجوار: وضع خطط تنموية متوازية للمناطق المحيطة (الموقر، سحاب، الأزرق) لضمان استفادة المجتمعات المحلية من المشروع عبر خلق فرص عمل وسلاسل توريد، وتجنب خلق "قلعة" معزولة وسط بيئة فقيرةرابعا - الحوكمة والإدارة1. تأسيس هيئة مستقلة لإدارة المدينة: يجب أن تكون الهيئة مستقلة عن الإدارة التقليدية ( رئيس الوزراء) ، ولها صلاحيات وقرارات مباشرة دون حلقات بيروقراطية معقدة، بحيث تكون مسؤولة عن تنفيذ المشاريع الكبرى، وتحديث خطط المشروع بشكل مستمر2. تنظيم الشراكات الحكومية-خاصة (PPP) يتم ذلك عبر تقديم تسهيلات للمستثمرين ضمن إطار قانوني للعقود، يضمن حقوق جميع الأطراف ، ويحدد مسؤوليات كل من الطرفين ( الدولة - المستثمر) ما يؤدي إلى ضمان مشاركة أكثر من مستثمر الأمر الذي يضمن توزيع المخاطر، وتعزيز التنافسية، ورفع جودة المشاريع.3. ضمان استمرارية المشروع ضمن أولويات الدولة: يجب أن يعتمد المشروع على خطة واضحة ورؤية استراتيجية طويلة الأمد لا تتأثر بتغير الحكومات، وتقلب الظروف الاقتصادية والسياسية.4. تحديد أدوار الجهات المختلفة: تحديد مسؤوليات الشركات الحكومية، الوزارات، والصناديق الاستثمارية لتقليل الغموض وتعزيز الثقة لدى المستثمرين.خامسا - الاقتصاد والاستثمار1. يجب اعتماد نموذج اقتصادي متنوع ومستدام لا يقتصر فقط على العقال، بل يجب أن يشمل القطاعات الإنتاجية مثل: الاقتصاد المعرفي، الصناعات الخفيفة، الشركات الناشئة، على أن يكون هناك حوافز جاذبة للاستثمار2. استيعاب أنماط الاقتصاد الحديثة، توزيع المنافع الاقتصادية على المجتمع المحلي، العمل على تقييم المخاطر وإنشاء خطط بديلة تضمن استكمال المشروع.سادسا - تنفيذ المشروع بشكل مرحلي معتمد بشكل مشروط على مؤشرات الأداءيوصي الخبراء بتنفيذ المشروع على مراحل متدرجة، تبدأ أولا بمشاريع محدودة، ثم يؤخذ بعين الاعتبار حجم الطلب الحقيقي، الجهوزية المؤسسية، الأثر الاجتماعي، الأمر الذي يضمن اتخاذ قرارات مبنية على تقييم موضوعي، وربط أي توسع لاحق بمؤشرات أداء واضحة.سابعا - زيادة الشفافية والمعلومات لتعزيز تقييم المشروع إتاحة القدر الكافي من المعلومات المتعلقة بالمشروع ومنها التصور التخطيطي للمشروع، ونموذجه الاقتصادي، والهدف الفعلي من تطبيقه، ومراحل تنفيذه، الأمر الذي يتطلب إعداد دراسات جدوى اجتماعية وبيئية واقتصادية متكاملة، مما يمكن الخبراء من تقييم فعلي للمخاطر والعوائد.خاتمةيشكّل مشروع مدينة عمرة اختبارا حقيقيا لقدرة الدولة على التخطيط للمستقبل وإدارة التحولات الحضرية الكبرى، بما يتجاوز منطق التنفيذ الهندسي إلى منطق صنع القرار طويل الأمد. فنجاح المشروع لا يُقاس بحجم الإنشاءات أو سرعة البناء، بل بقدرته على خلق بيئة حضرية قابلة للحياة، تستوعب النمو السكاني، وتحقق الغاية الديموغرافية المعلنة للمشروع، دون إنتاج أعباء مالية أو اجتماعية جديدة.تشير المعطيات الحالية إلى أن سيناريو النمو البطيء والمدينة النهارية يبقى الأرجح في حال الاستمرار بالنهج القائم. ولتفادي الانزلاق نحو سيناريو التعثر والعبء المالي، توصي هذه الورقة باعتماد نموذج حوكمة مستقل وواضح، وربط أي توسع عمراني فعلي بتحقيق مؤشرات جاهزية محددة في قطاعات المياه والنقل والبنية التحتية، بدل المضي في التوسع على أساس افتراضات غير مضمونة.وفي جوهره، لا يختبر مشروع مدينة عمرة قدرة الدولة على بناء مدينة جديدة بقدر ما يختبر قدرتها على اتخاذ قرار سياساتي قادر على الصمود بعد عقد من الزمن. فالمدن لا تفشل بسبب نقص الخرسانة، بل بسبب ضعف القرار المؤسسي في لحظته التأسيسية. وعليه، فإن حسم نموذج الحوكمة، وتوزيع المخاطر، وتحديد المسؤوليات منذ البداية، يُعد استثمارا سياسيا بحد ذاته، لا يقل أهمية عن أي استثمار مالي أو عمراني.









