لم يعد القلق حالةً فرديةً عابرة، بل تحوّل في السنوات الأخيرة إلى ظاهرة مجتمعية عامة، تتسلل إلى تفاصيل الحياة اليومية، وتنعكس على سلوك الأفراد والجماعات، وعلى أنماط التفكير والعلاقات الاجتماعية. فالقلق المجتمعي هو ذلك الشعور الجمعي غير المعلن بالخوف من المستقبل، وفقدان الأمان، واضطراب الثقة، والذي يتغذّى من تراكم الأزمات الاقتصادية، والسياسية، والثقافية، وتسارع التغيرات في عالم لم يعد يمنح الإنسان وقتًا كافيًا للتكيّف.
ينشأ القلق المجتمعي حين يشعر الفرد أن جهده لا يقوده بالضرورة إلى استقرار، وأن القواعد التي نشأ عليها لم تعد صالحة لفهم الواقع أو ضمان الغد. فارتفاع تكاليف المعيشة، وتقلّص فرص العمل، واتساع الفجوة بين الطبقات، تجعل الإنسان في حالة ترقّب دائم، يراقب كل تفصيل صغير وكأنه تهديد محتمل. ومع الوقت، يتحوّل هذا الترقب إلى توتر مزمن، ينعكس غضبًا أو انسحابًا أو لا مبالاة.تلعب وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي دورًا مركزيًا في تضخيم هذا القلق. فالتدفق المستمر للأخبار السلبية، والمقارنات الاجتماعية، وصناعة الخوف، تضع الفرد في مواجهة يومية مع أسوأ الاحتمالات. يصبح الحدث الاستثنائي وكأنه قاعدة، ويغدو الشعور بالخطر حالة طبيعية، حتى في غياب تهديد حقيقي مباشر. وهنا يفقد المجتمع توازنه النفسي، ويتآكل شعوره الجمعي بالطمأنينة.ولا يقف أثر القلق المجتمعي عند حدود الشعور الداخلي، بل يتجاوز ذلك إلى السلوك العام. فنراه في ضعف الثقة بالمؤسسات، وفي تصاعد حدة الخطاب، وفي انتشار الشائعات، وفي تراجع قيم التضامن لصالح النزعة الفردية. كما يظهر في العلاقات الأسرية، حيث يزداد التوتر بين الأجيال، ويصعب الحوار، ويتنامى الخوف من الفشل لدى الشباب، ومن فقدان الدور لدى الكبار.غير أن أخطر ما في القلق المجتمعي هو تطبيعه؛ حين يصبح الخوف جزءًا من الحياة اليومية، ويتعايش الناس معه دون وعي أو مقاومة. عندها يفقد المجتمع قدرته على الحلم والتخطيط، ويكتفي بإدارة الخسائر بدل صناعة الأمل. فالقلق إذا لم يُفهم ويُعالج، يتحول إلى عائق حضاري يجمّد الطاقات ويشلّ المبادرات.إن مواجهة القلق المجتمعي لا تكون بالإنكار أو التهوين، بل بالاعتراف به أولًا، ثم ببناء خطاب عقلاني يوازن بين الواقع والأمل، ويعيد الثقة بالعمل المشترك، ويعزز العدالة والشفافية. كما تتطلب دعم الصحة النفسية، وتربية الأجيال على المرونة الفكرية، والقدرة على التكيف دون فقدان القيم.في النهاية، يبقى القلق المجتمعي مؤشرًا حساسًا على صحة المجتمع. فإن أُحسن التعامل معه، تحوّل إلى دافع للتغيير والإصلاح، وإن أُهمل، غدا شرخًا صامتًا يتسع مع الزمن، ويهدد تماسك المجتمع من الداخل.اخر اخبار الاردن
13:10