في الأردن، لا تشرحُنا الكلمات.. بل تكتشفُنا. هنا، الثقافةُ ليست ترفاً نلهو به، بل هي طريقتنا الوحيدة في ترميمِ انكساراتِ الروح، ومُصالحةِ الأمل مع الحلم. فلا تُقامُ الثقافة كوليمةٍ عابرةٍ تحت الأضواء، ولا تُدرجُ كسطرٍ باردٍ في أجندةِ المواعيد، بل هي نبضٌ سريٌّ ينسابُ تحت جَلدِ المكان، كشهقةِ ماءٍ عذبةٍ فَقِهَت لغةَ الصخر، فشقّت طريقها في صمتٍ بليغٍ لا يحتاجُ إلى ضجيج. هي ليست ما يُقالُ عنّا في المَحافل، بل هي ما تقوله الروحُ حين يلوذُ الجميعُ بالصمت؛ تسيرُ بخطىً وئيدةٍ وقورة، كمن يدركُ يقيناً أنَّ الوصولَ الحقيقي لا يُنالُ إلا بالحلولِ في جوهرِ المعنى.
هذا بلدٌ فَهم باكراً أنَّ الثقافة ليست قدراً صامتاً، بل هي مِحبرةٌ أزليةٌ تُصاغُ منها الهوية؛ فمن الصحراء التي أورثتنا لغةً بصفاءِ الضوءِ الأول، إلى الجبال التي نحتت في حنجرتنا وعورةَ الحقِّ وصلابةَ الموقف، وصولاً إلى مدنٍ تُحاولُ كلَّ فجرٍ أن تَعقدَ صُلحاً مقدساً بين ذاكرةِ الحنين وتَسارعِ الزمن. الثقافةُ هنا لم تُحبس خلف الجدرانِ ، بل عُمّدت في هجيرِ الشوارع، وفي بُحّةِ الأغنية التي وُلدت بلا مؤلفٍ لتسكنَ وجدانَ الجميع، وفي المَثَلِ الشعبي الذي اختزلَ فلسفةَ الوجودِ في رمشةِ عين.في هذا الوطن، الذي يبدو كأنه مخطوطةٌ كُتبت بوجْدٍ قلقٍ ثم أُعيدت صياغتها بالصبر، تتجلى الثقافةُ بكبرياءِ النقصِ الجميل. مقاهيه ليست جدراناً ومقاعد، بل هي رئاتٌ للتفكيرِ وخلواتٌ للمتعبين بالحلم؛ مسارحه، وإن شحَّ ضوؤها، تضجُّ بكثافةِ الأرواح التي تأبى الانطفاء؛ وكتبه التي تُقرأ في الظلال تحملُ صخباً داخلياً يكفي لإعادة ترتيبِ أسئلةِ الكون. هنا، لا تبحثُ الثقافةُ عن تصفيقِ الأكفّ، بل عن تورّطِ الأعين في سحرِ المعنى، وعن قارئٍ يجرؤُ على ملامسةِ الجرح.المبدعُ في وطني لا يرقبُ الحياة من شرفةٍ عاجية، بل يغمسُ ريشتهُ في حبرِ الرصيف؛ نصُّه معجونٌ بهاجسِ العدالة، ومسكونٌ بذاكرةِ الهامش الذي يرفضُ النسيان. والشاعرُ حين يكتُب، لا يغازلُ الحروف، بل يختبرُ صمودَ اللغة؛ هل تستطيعُ كلماتنا أن تحملَ هذا الثقلَ من الحنين، وهذا الفيضَ من الوجعِ والكبرياء؟ فالفنُّ في الأردن يشبهُ أهله، عفةٌ في الإمكانات، وبذخٌ في الرؤيا، والموسيقى، حتى في أوجِ بساطتها، تحملُ إيقاعَ مكانٍ عرفَ كيف يفرحُ بوقارٍ ويحزنُ بكرامةٍ تليقُ بالفرسان.غير أنَّ هذه الثقافةَ الرهيفةَ لا تعيشُ على الأحلامِ وحدها؛ فهي كثيراً ما يُحتفى بها كلاماً، وتُتركُ وحيدةً عند حافةِ الفعل. ومع ذلك، تواصلُ المسيرَ بأقدامٍ حافيةٍ من الدعم، لكنها مكسوةٌ بالشغف؛ يحملُ قنديلها أفرادٌ آمنوا أنَّ الكلمةَ هي الحصنُ الأخير. والجيلُ الجديدُ اليوم يخطُّ فصلاً يضجُّ بالجسارة، جيلٌ يصنعُ منصاته من الموهبة، يطوّعُ أدواتِ العصر ليحمي بها إرثاً لا يموت، مدركاً أنَّ الثقافةَ ليست ماضياً يُحفظ، بل طاقةً تتفجرُ كلَّ صباح.تظلُّ الثقافةُ في الأردن هي المساحةَ الأخيرةَ للممكن؛ هي دعوتنا للتأمل في زمنِ الصخب، وإصرارنا على العمق في زمنِ التسطيح. هي التي تذكرنا بأنَّ الوطنَ ليس مجردَ حدودٍ نسكنها، بل هو ما نفهمه منه، وما نحبُّه فيه برغمِ كلِّ شيء. ثقافةٌ لا تصرخ، لكنها لا تغيب.. لا تدّعي الكمال، لكنها تملكُ قداسةَ المحاولة. هي كالأردن تماماً .. هادئةٌ في إهابها، سحيقةٌ في غورها، ولا يدركُ سِرَّها إلا من اقترب، وأصغى، وترك للكلمات أن تمارس فعلها البطيء.. والنهائي.لأنهُ في البدءِ كان الصخر.. وفي المنتهى صار المعنى؛ ستبقى الثقافةُ في هذا الوطن هي الشمعةَ التي لا تستأذنُ الريح، والسرَّ الذي لا يُباحُ به إلا لمن توضأ بماءِ الصدق، وآمنَ أنَّ الأردن.. قصيدةٌ كُتبت لتبقىالحنيطي تكتب: حين تكون الثقافةُ انحيازاً للروح
مدار الساعة ـ