"أخوّة لا عيشاً مشتركاً"
كنتُ كلّما مررتُ بقرى حمّود والسماكيّة، رأيت ما ظننته انقرض… عجائزَ يجلسن في عيون الشمس، يجدِلن الصوف كأن الزمن لم يتعلّم بعدُ كيف يقطع خيوطه، يغزلن الذاكرة غزلاً، ويطرّزن على الصبر أسماءنا القديمة.كنتُ أحسب أنّ هذا المشهد لا تقوم به إلا أمّي، وأنّ تلك القرى ليست إلا نسخاً بعيدة من قرانا التي ضاعت في الذاكرة، وأنّ الرجال الذين ما زالوا “يلبسون الكِبَر” قد انقرضوا، ولم يبق منهم غيرُ من نحملهم في الحنين. لكنني، حين مررتُ بحمود والسماكيّة، رأيتُ كِبَرَ أبي، وحزامه، وشِبريّته التي كانت تستقرّ على بطنه، ورأيتُ العقال يميل على رأس صاحبه كما يشاء.هناك فهمتُ أنّ الذاكرة لم تمت؛ إنّما انسحبت إلى القرى. وما غار في أذهاننا لا توقظه المدن، بل تستفزّه الأمكنة الصغيرة التي لم تتعلّم بعدُ كيف تتنكّر لذاتها. تلك هي ذاكرتُنا الحيّة.أيّها الجالسون في غرف الظلام… ماذا أقول لموسى حجازين الذي يذكّرني كلّ ليلة بأنّ غداً يوم الجمعة، وأنّ الصلاة على النبيّ ليست طقساً عابراً، بل حبلُ نجاةٍ من قسوة الأيام؟ أقول له: أنت لا تذكّرني بالجمعة فحسب، بل تذكّرني أنّ في هذا البلد أناساً ما يزالون يقيسون الزمن بالإيمان لا بالضجيج، وأنّ الذكر ليس تكراراً بل مقاومةٌ للنسيان.وماذا أقول لعماد مدانات، ورفقة دودين، وغالب هلسا، وقبلهم روكس بن زائد العزيزي؛ الذين كتبوا تفاصيلنا، وأصغوا لوجع المكان وهمس أهله؟ وماذا أقول لضرغام الخيطان الذي ما زال يقبض على جمر الوطن تحت قميصه الأبيض الذي تفوح منه رائحة البيادر العتيقة؟ ماذا نقول جميعا لناهض الذي قضى إلى ربه شهيدا وهو يحاول أن يُنهض فينا همّة الخوف على الوطن؟ ماذا أقول لعودة فاخوري الذي زرع الفرح في قلوب الملايين قبل أيام؟اقرأوا "بيركهارت" الذي زار الأردن قبل 200 عام وقال حينها: "لم أستطع ان أميّز بين المسيحي والمسلم، لا بطريقة العيش ولا بالشكل، ولا بالطقوس" اتّقوا اللهَ الواحدَ الأحد فينا؛ فما تزال الجوامعُ أوسعَ بكثيرٍ من الفوارق. أهلُنا في الكرك ممّن يدينون بالمسيحية يرفعون أياديهم نحو السماء نفسها، ويُمسكون مسبحةً تُجاور صورة المسيح في البيوت العتيقة؛ وهي ذاتُ المِسبحة التي ظلّت تتدلّى في أيدي جدّاتنا.لم نكتب عن “علاقة”، بل كتبنا عن بيتٍ واحد: عن خبزٍ قُسِم قبل أن يُسأل عن الاسم، وعن جنازةٍ يمشي فيها الجميع، وعن صلاةٍ تُحترم ولو اختلف اتّجاهها. ما كتبناه ليس مقالاً، بل شهادةٌ على بلدٍ لم يُبنَ على الغلبة، بل على المعرفة المتبادلة، والمحبّة، والإحساس العميق بالآخر؛ فمن يؤخّر قِرى عرسه حتى يؤذَّن المغرب صوناً لصوم جاره، لا يكون "مختلفاً" عن جاره قطّ.هذه البلاد تعرف، بالفطرة، أنّ الاختلاف ليس خطراً بل غِنى. لذلك أكتفي بأن أمشي مرّةً أخرى في حمّود، وفي السماكيّة، وأترك للقرى أن تتكلّم نيابةً عنّي. فهي تعرف كيف تحفظنا حين ننسى أنفسنا، وكيف تدلّنا على ذواتنا هناك… في السماكيّة صنو "أمّ الحماط"، وحمّود صنو "العُمريّة"، وفي أدر حيث يتعانق المسجدُ مع الكنيسة.اتركونا كما نحن؛ فهذا ليس "عيشاً مشتركاً" كما تدّعون، إنّها أخوّةُ الجذر المشترك. لجذورنا امتداداتٌ في المسيحية واليهوديّة والوثنيّة قبل أن يُشرق الإسلام، فاختاروا أيّ الجذور تحبّون. أمّا أهلي فكانوا على دين التوحيد المسيحي، ثم جاء الإسلام فدانوا بدين التوحيد الإسلامي. وهكذا ظلّ النبع واحداً، تتعدّد مجاريه وتصفو مياهه، ما دام القلب على العهد: لا يُقصي، ولا يُفَرِّق، ولا يخذلُ خبزَ الجار وملحَه.لنبارك لإخوتنا في الكرك وكل الأردن أعيادهم، كل عام وأنتم بخير؛ لتبقَ بيوتكم دافئةً بضياء الشموع، وموائدكم عامرةً بملح المحبّة، وقلوبكم مطمئنةً، نسأل الله لقرانا بركة المواسم، ولأطفالنا فرح الميلاد.الطراونة يكتب: إلى موسى حجازين.. كل عام وأنت بألف خير يا صديقي
أحمد الطراونة
روائي وإعلامي
روائي وإعلامي
مدار الساعة ـ