يشكّل تحديد صلاحيات رئيس مجلس النواب ودوره الدستوري في التمثيل النيابي، إلى جانب صلاحياته الرئاسية في إدارة جلسات المجلس وتنظيم شؤونه، مدخلاً أساسياً لفهم آلية العمل البرلماني. وقد عالج النظام الداخلي هذا الدور بوضوح، حين أناط برئيس المجلس إدارة الجلسات، وتنظيم النقاش، ووضع جدول الأعمال، وإعلان القرارات، ومتابعة تنفيذها، فضلاً عن تمثيل المجلس والتعبير عن إرادته، ورئاسة جهازه الإداري.
وانطلاقاً من هذا التحديد، تبقى صلاحيات رئيس المجلس، على ما لها من أهمية، ذات طبيعة تنظيمية محضة، غايتها تمكين المجلس من الاضطلاع بوظائفه الدستورية، لا الحلول محلّه أو استباق دوره الرقابي. وغالباً ما ينشأ الخلط في هذا السياق بين وظيفة الرئاسة بوصفها إدارة للعمل النيابي وتنظيماً لإجراءاته، وبين صفة الرئيس كنائب منتخب يتمتع، كسائر الأعضاء، بحق إبداء الرأي والتعبير السياسي. وهو خلط من شأنه أن يفضي إلى تحميل الموقع الرئاسي ما لا يحتمله دستورياً، أو إلى تأويل بعض المواقف خارج سياقها المؤسسي الصحيح.ويعود هذا الخلط في جانب منه إلى الطبيعة المركبة للموقع ذاته، إذ إن رئاسة مجلس النواب في النظام البرلماني الأردني موقع دستوري لا يشكّل سلطة قائمة بذاتها، ولا يمنح صاحبه ولاية سياسية مستقلة، وإنما يضعه في موقع المسؤول عن إدارة المسار الذي تُمارَس من خلاله وظائف المجلس الدستورية، بما في ذلك التشريع والرقابة. فالرئيس لا يمارس هذه الصلاحيات منفرداً، ولا يحل محل المجلس أو أعضائه في المساءلة والرقابة على الحكومة، بل يضمن انتظام العمل النيابي وحسن سير إجراءاته.وفي هذا الإطار، تُثار أحياناً ملاحظات بشأن دور رئيس المجلس في متابعته لمداخلات النواب أثناء الجلسات والرد عليها، وبأنه قد يحلّ محل النواب في توجيه الأسئلة أو في الإجابة عنها بالنيابة عن الحكومة. غير أن الواقع الدستوري مغاير لذلك تماماً؛ فالرقابة البرلمانية، في أصلها، ليست فعلاً شخصياً ولا تقوم على تقدير فردي، ولا تُختزل في تصريح أو موقف، مهما علت صفة صاحبه، وإنما هي حق أصيل للمجلس ولأعضائه، يُمارَس عبر أدوات وإجراءات دستورية محددة، لها أصولها وآثارها السياسية المقررة.ومع التأكيد على الطابع المؤسسي للرقابة، فإن تولّي الرئيس سدة الرئاسة لا يعني تجريده من حقه في إبداء الرأي وتقديم ما لديه من معلومات، رداً على ما قد يُثار من قبل باقي الأعضاء خلال مناقشاتهم وكلماتهم تحت القبة؛ فهو نائب منتخب، ومن الطبيعي أن تكون له مواقف ورؤية سياسية.غير أن هذا التمييز لا يحظى دائماً بقبول في النقاش العام، إذ يصر البعض على إنكار حق الرئيس في ممارسة هذه المكنة الدستورية، باعتبار أن ما يصدر عنه من تصريحات يحمل أبعاداً سياسية حكومية، وكأنه دفاع عن رئيسها والوزراء فيها باسم المجلس. وهو ما يستدعي قدراً أعلى من التحفظ والدقة في التمييز بين "رأي الرئيس كنائب" الذي قد يصيب أو يخطئ، وبين "موقف المجلس" الذي لا يتكوّن إلا بإجراءات مؤسسية مقررة، تتمثل عملياً في خطاب أو بيان يصدر عن الرئيس بصفته الرئاسية وباسم المجلس، معبّراً عن إرادته المؤسسية التي لا تُستبدل برأي شخصي.وتتجلى أهمية هذا التمييز بوضوح في مداخلات رئيس مجلس النواب أثناء الجلسات؛ فحتى إن ترتب عليها أثرٌ قد يُفهم منه أنه يصب في مصلحة الحكومة، فلا يجوز أن تُقرأ بوصفها مناصرة لها أو دفاعاً عنها. فالرئيس هو المسؤول الأول عن إدارة مجريات الجلسات وضبط ما يُقال داخل المجلس، وله بهذه الصفة أن يتدخل لإعادة النقاش إلى مساره السليم، أو لتصويب معلومة، أو لمنع الخروج عن الموضوع، ولو أدى ذلك، عرضاً، إلى تلاقي موقفه الإجرائي مع مصلحة الحكومة.ولا ينتقص هذا الدور التنظيمي لرئيس مجلس النواب من حقوق أعضائه، إذ يظل لكل نائب الحق الكامل في ممارسة صلاحياته الرقابية على الحكومة، بل وفي مواجهة رئيس المجلس ذاته، ضمن الأطر الدستورية المقررة. وقد أجازت التعديلات الدستورية لعام 2022 لأعضاء مجلس النواب التصويت على عزل رئيسهم وإنهاء ولايته الرئاسية إذا ثبتت مخالفته لأحكام الدستور، بما يؤكد أن موقع الرئاسة ليس بمنأى عن المساءلة، وأن أي خلاف مع الرئيس يُعالج بالوسائل الدستورية، لا بالإدانة المسبقة ولا بتشكيك النيات.إن الرئاسة النيابية تستمد شرعيتها من ثقة المجلس ذاته، وتبقى هذه الثقة قابلة للسحب متى ثبت خروج الرئيس على أحكام الدستور أو انحرافه عن مقتضيات موقعه. ومن ثمّ، فإن اختلاف الرأي مع الرئيس أو الاعتراض على بعض مواقفه لا يبرر تحويل النقاش إلى حملات تشكيك أو اتهام، ما دامت الأدوات الدستورية قائمة ومفتوحة، وما دام المجلس يملك سلطة تقييم الأداء ومساءلة الرئيس، بل وعزله عند الاقتضاء.إن الغيرة الحقيقية على حماية الدور الرقابي لمجلس النواب لا تكون بتوسيع دائرة الشك أو تحويل كل قضية داخلية إلى صراع، وإنما بالتمسك بالمسارات الدستورية ذاتها: أسئلة تُوجَّه، واستجوابات تُطرح، ونقاشٌ يُدار تحت القبة، وقرارات تُتخذ في إطار المؤسسة البرلمانية. فالدستور لم يُقم وزناً لرقابة انفعالية أو إعلامية، وإنما لرقابة منظمة لها أصولها وقواعدها، تحترم التخصيص الرقابي للمجلس وأعضائه.وعلى هذا الأساس، فإن هيبة مجلس النواب واستقلاله تقوم على حسن قراءة الأدوار واحترام حدودها، وترسيخ القاعدة الجوهرية في النظام البرلماني، وهي مسؤولية رئيس الوزراء والوزراء أمام مجلس النواب، لا أمام رئيسه أو مكتبه الدائم.المركز الدستوري لرئيس مجلس النواب الأردني
أ. د. ليث كمال نصراوين
أستاذ القانون الدستوري – عميد كلية الحقوق في جامعة الزيتونة
المركز الدستوري لرئيس مجلس النواب الأردني
أ. د. ليث كمال نصراوين
أستاذ القانون الدستوري – عميد كلية الحقوق في جامعة الزيتونة
أستاذ القانون الدستوري – عميد كلية الحقوق في جامعة الزيتونة
مدار الساعة (الرأي الأردنية) ـ