بصدور قانون البيئة الاستثمارية رقم (21) لسنة 2022، ودخوله حيز التنفيذ مطلع العام 2023، استبشر المراقبون بما أسموه "نقلة نوعية" في إدارة الملف الاستثماري في الأردن، وبأنه أداة حديثة لتبسيط الإجراءات، وتوحيد المرجعيات، وجعل المملكة أكثر تنافسية في سياق الجذب الاستثماري.
القانون جاء بعد سنوات طويلة من الشكوى المزمنة من تعقيد البيئة الاستثمارية، وتعدد الجهات، وتضارب الصلاحيات، وبطء اتخاذ القرار. غير أن مرور ما يقارب ثلاث سنوات على إقراره، يطرح سؤالا مشروعا: هل حقق القانون أهدافه، أم أننا ما نزال ندور في فلك التمنيات؟أكثر بنود القانون إثارة للجدل كان نقل القرار الاستثماري من يد الوزير إلى لجان مختصة، بذريعة تحقيق المؤسسية، والحد من المزاجية، وضمان العدالة والشفافية. غير أن هذا التحول، الذي بدا نظريا تقدما إداريا، أثار مخاوف حقيقية من تفريغ القرار من مرونته، وتحويله إلى عملية بيروقراطية طويلة.منذ دخوله حيز التنفيذ، تعاقب على وزارة الاستثمار أربعة وزراء، هم: خيري عمرو، وخلود السقاف، ومثنى غرابية، وطارق أبو غزالة. هذا التغير السريع في القيادات يثير بحد ذاته علامة استفهام كبيرة، فهل أخفق هؤلاء الوزراء في ترجمة بنود القانون إلى خطوات على أرض الواقع؟ كما أن سؤالا آخر يطرح بقوة أيضا، فكيف لأي سياسة استثمارية أن تتماسك على أرض الواقع في ظل غياب الاستقرار الإداري وتبدل الأولويات واختلاف أساليب الإدارة.فالاستثمار بطبيعته يحتاج إلى رؤية طويلة الأمد، ورسائل واضحة للأسواق، وإدارة متماسكة قادرة على المتابعة والبناء التراكمي.الأهم هنا ليس عدد الوزراء، بل مجموعة من الأسئلة التي لا بد من طرحها: ما الذي أنجزته الوزارة فعليا باستخدام هذا القانون؟ وما هي المشاريع النوعية التي جرى استقطابها؟ وما حجم الاستثمارات الجديدة مقارنة بالسنوات السابقة؟ وهل أحدث القانون فرقا حقيقيا في تجربة المستثمر، أم أن الواقع العملي لم يختلف كثيرا عما كان سائدا من قبل؟الإجابات لا تبدو واضحة للرأي العام، ولا تتوافر بيانات تفصيلية مقنعة تظهر أثرا ملموسا للتشريع الجديد على الاقتصاد الوطني، فهل أخفق القانون كنص تشريعي، أم أن الإخفاق الحقيقي يكمن في طريقة إدارته وتطبيقه؟هنا تبرز إشكالية أعمق تتجاوز هذا القانون بعينه، وهي إشكالية العلاقة بين التشريع والإدارة. فالتشريع، مهما كان متقدما ومكتوبا بلغة عصرية، يبقى إطارا نظريا إذا لم يُترجم إلى سياسات تنفيذية واضحة، وإجراءات فعالة، وكوادر قادرة على اتخاذ القرار وتحمل مسؤوليته. القوانين مهما كانت نقلة نوعية، لن تستطيع عمل أي فرق إن بقيت حبيسة النصوص بسبب إدارات لم تمتلك الأدوات أو الإرادة أو الرؤية الكافية لتنفيذها.في المقابل، لا يمكن إعفاء التشريع نفسه من المسؤولية. فحين يصاغ قانون بطريقة تضعف مركز القرار، أو تغرقه في لجان متعددة، أو تحمل المستثمر أعباء إجرائية غير مباشرة، فإن ذلك ينعكس سلبا على الجاذبية الاستثمارية، مهما كانت نوايا الإدارة حسنة. المستثمر لا يبحث فقط عن نص قانوني جيد، بل عن سرعة ووضوح واستقرار، وعن شخص مسؤول يمكن محاسبته.لذلك، فإن الإشكال الحقيقي يبدو مزيجا من الأمرين: تشريع لم يُحسم فيه الجدل حول فلسفة القرار الاستثماري، وإدارة لم تنجح حتى الآن في تحويل القانون إلى قصة نجاح يمكن الدفاع عنها بالأرقام والنتائج. ومع استمرار الحديث الرسمي عن تحفيز الاستثمار كأولوية وطنية، يصبح من الضروري فتح نقاش شفاف حول أداء وزارة الاستثمار، وتقييم تجربة القانون بموضوعية، بعيدا عن التبرير أو التهويل.ليس السؤال اليوم: هل نحتاج إلى قانون جديد؟ بل: هل نملك القدرة على إدارة أي قانون بفعالية؟ فالتشريعات، وحدها، لا تجذب الاستثمارات، بل تجذبها العقول التي تطبقها، والاستقرار الذي يحميها، والوضوح الذي يطمئن المستثمرين.ضعف تشريع.. أم سوء إدارة؟
مدار الساعة (الغد الأردنية) ـ