لم يكن حضور المنتخب الأردني في كأس العرب مجرّد مشاركة رياضية عابرة، ولا نتيجة تُقاس بعدد الأهداف أو ترتيب المجموعات، بل كان لحظة رمزية كثيفة الدلالة، أعادت إلى الوعي الجمعي الأردني سؤالًا ظلّ مؤجّلًا طويلًا، هل يستطيع هذا البلد أن ينجح حين تتوفر الإرادة، وتُحسن الإدارة، ويُمنح الإنجاز فرصة عادلة للنمو؟
في زمنٍ تتزاحم فيه الأزمات الاقتصادية والضغوط السياسية، جاء المنتخب ليقدّم جوابًا عمليًا لا إنشائيًا. جوابًا يقول بوضوح إن الأردن قادر على التقدّم، لا رغم محدودية موارده، بل بفضل الإرادة والإدارة التي تعرف ماذا تريد، وتعمل بصمت، وتحاسب نفسها قبل أن تطلب التصفيق.المنتخب انتصر، لا لأنه يملك أكثر، بل لأنه امتلك ما تفتقده الكثير من المؤسسات.ما فعله المنتخب الأردني في كأس العرب تجاوز حدود المستطيل الأخضر. فقد أعاد، ولو مؤقتًا، ترميم الثقة المكسورة بين المجتمع وفكرة الإنجاز نفسها. الشارع الأردني، المثقل بخيبات متراكمة، وجد في أداء المنتخب نموذجًا مصغّرًا لما يمكن أن تكون عليه مؤسسات الدولة حين تعمل بانسجام، وتُدار القرارات بعقل بارد لا بعواطف مرتجلة.وما كشفته لحظة الالتفاف الشعبي حول المنتخب لم يكن كله شغف في كرة القدم فقط، بل شوقًا عميقًا إلى أي قصة نجاح حقيقية. الناس لم تخرج ابتهاجًا بالأهداف بقدر ما خرجت لأنّها رأت صورة مغايرة للمؤسسات التي اعتادت عليها، دولة تنجز، لا مؤسسات دولة تشرح وتبرر لماذا فشلت.هذا الإجماع لم يكن تفصيلًا عاطفيًا عابرًا، بل مؤشرًا بالغ الدلالة على أن الأردنيين لا يعانون من نقص في الوطنية، بل من فقر في الإنجازات التي تمنحهم سببًا معقولًا للالتفاف حول مؤسساتهم.لقد شكّل المنتخب حالة نادرة في بلد اعتاد الانقسام حول كل شيء يطرح تقريبًا، فتراجعت الاستقطابات المناطقية والاجتماعية، وتقدّمت الهوية الوطنية الأردنية، بوصفها هوية عظيمة، لا شعارًا للاستهلاك الموسمي.سياسيًا، أعاد هذا الإنجاز طرح فكرة الدولة القادرة في مواجهة خطاب العجز السائد. فالمجتمع الذي يرى أبناءه ينجحون على منصة عربية كبرى، يبدأ تلقائيًا بإعادة تقييم سردية الفشل، ويتساءل بوضوح، إذا كان النجاح ممكنًا في كرة القدم، فلماذا يستحيل في الاقتصاد؟وإذا كانت مؤسسة محدودة الموارد قادرة على التنظيم والانضباط، فلماذا تُدار ملفات التعليم والمياه والطاقة والاستثمار بعقل التجريب والارتجال؟هذا الالتفاف الشعبي يقوده الهاشميون يحمل رسالة لا تحتمل التأويل، الناس لم تفقد وطنيتها يومًا، لكنها فقدت ثقتها بقدرة بعض المؤسسات على تحويل الوعود إلى نتائج. وحين يظهر إنجاز صادق، يتوحّد الأردنيون فورًا، ما يعني أن الأزمة ليست في المجتمع، بل في نمط الإدارة.اللافت في تجربة المنتخب أن الإنجاز لم يكن نتاج عمل فردي، بل نتيجة عمل مؤسسي تراكمي، إدارة واضحة، وجهاز فني منضبط، وتخطيط، وتوزيع أدوار، ومحاسبة أداء. وهذا هو الدرس الجوهري الذي يجب أن يُقرأ خارج إطار الرياضة، لأن الدول لا تنهض بالصدفة، كما أن الفرق لا تفوز بالحظ.وهنا تبرز ملاحظة لا تقل أهمية عن البعد السياسي، كنا نتمنى أن تقوم كليات التربية الرياضية في الجامعات الأردنية بإيفاد عدداً من طلبتها وأساتذتها لحضور مباريات المنتخب، لا كمشجعين فقط، بل كباحثين، لدراسة هذه الحالة المؤسسية الفريدة، وتحليل عناصر النجاح، والبناء عليها علميًا، سواء في مشاريع تخرج الطلبة، أو في بحوث تطبيقية قابلة للتطبيق والتعميم على المنتديات المحلية الأخرى، وقد تكون ابعد من ذلك.فالمنتخب لم يقدّم إنجازًا رياضيًا فقط، بل حالة دراسية متكاملة في الإدارة، والقيادة، وبناء الفريق، والانضباط تحت الضغط. تجاهل هذه الفرصة البحثية يعكس فجوة أعمق بين الجامعة والواقع، وبين المعرفة النظرية وما يجري فعليًا في مؤسسات الدولة.حين تنجح مؤسسة ما في الأردن، رياضية كانت أو تعليمية أو خدمية، فإنها لا تحقق إنجازًا خاصًا بها فقط، بل تُعيد بناء جسر الثقة بينها وبين الشارع الأردني الذي بات يتعطش لأي مثال يثبت أن الجهد لا يضيع، وأن العمل الجاد يجب أن يُكافأ، لا يستثنى او يحارب.الخطير في الأمر أن التناقض أصبح مكشوفًا أمام الجميع. لم يعد ممكنًا إقناع الناس بأن الفشل قدر لضيق الامكانات، بعدما رأوا النجاح يتحقق بإمكانات محدودة. وهنا يتحوّل الإنجاز الرياضي إلى مرآة تعكس خلل الإدارة العامة، لا إلى مساحة للترفيه أو التسلية فقط.في بلد أُنهك بسردية الظروف الصعبة، جاء المنتخب ليكسر هذه الذريعة أمام الرأي العام، ويضع سؤالًا سياسيًا ثقيلًا على الطاولة، إذا كان الإنجاز ممكنًا في كرة القدم، فلماذا يستحيل في بقية مؤسسات الدولة؟المشكلة في التجربة الأردنية ليست غياب النجاحات بالكامل، بل التعامل معها كاستثناءات مريحة لا كنماذج قابلة للتعميم. فالمنتخب قدّم حالة يجب البناء عليها، لا الاحتفاء بها فقط، ثم نسيانها.الوطنية لا تُصنع بالخطب، بل بالإنجازات الملموسة التي يشعر المواطن أنها تخصّه، وتعكس صورته أمام نفسه وأمام الآخرين.حين يرى الأردني مؤسساته تنجح، ينجح هو معها. وحين يشعر أن مؤسسات الدولة قادرة على إدارة فريق، أو مشروع، أو ملف بكفاءة، تتراجع فجوة الشك، ويتقدّم الإحساس بالشراكة بدل الاغتراب.الاحتفاء بالمنتخب واجب، لكن تحويل التجربة إلى مهرجان عاطفي هو التفاف على الدرس الحقيقي. فالإنجاز لا تصنعه النوايا الحسنة، بل المؤسسات القادرة. والمنتخب الأردني لم ينتصر لأن لاعبيه أفضل من غيرهم، بل لأن منظومته كانت أكثر انضباطًا من منظومات يفترض أنها أكثر خبرة وموارد.انتهى كاس العرب، وانتهت صافرة النهاية، ويبقى السؤال الأهم، هل سنتعامل مع ما حدث كفرحة عابرة تُطوى مع آخر صافرة، أم كنقطة إدانة يجب أن تُبنى عليها مراجعة شاملة؟المنتخب الأردني لم يمنحنا فقط لحظة فرح، بل وضعنا أمام حقيقة قاسية، الأردن لا يفشل لأنه عاجز، بل لأن بعض مؤسساته لا تُدار بعقل الإنجاز.المنتخب لم ينتصر لأنه يملك أكثر، بل لأنه أدار ما يملك أفضل. وهذه هي المعادلة التي ينتظرها الأردنيون من مؤسسات دولتهم، إنجاز يقود إلى ثقة، وثقة تُبنى عليها دولة أكثر صلابة، وأكثر قدرة على التقدّم.اليوم، إما أن نطبق الرؤى الملكية، كما أرادها الملك في التعليم، والاستثمار والاقتصاد، وغيرها، ونتعلّم من المنتخب أن النجاح ممكن حين تُدار الأمور بعقل الدولة، أو نكتفي بالتصفيق، ونعود إلى لغة التبرير.المنتخب الأردني أعاد تعريف معنى فن الممكن
الاستاذ الدكتور عبدالله سرور الزعبي
مركز عبر المتوسط للدراسات الاستراتيجية رئيس جامعة البلقاء التطبيقية السابق
المنتخب الأردني أعاد تعريف معنى فن الممكن
الاستاذ الدكتور عبدالله سرور الزعبي
مركز عبر المتوسط للدراسات الاستراتيجية رئيس جامعة البلقاء التطبيقية السابق
مركز عبر المتوسط للدراسات الاستراتيجية رئيس جامعة البلقاء التطبيقية السابق
مدار الساعة (الغد) ـ