منذ مطلع التسعينيات، ومع تفكك الدولة الصومالية وانهيار مركزها، ظهرت أرض الصومال بوصفها حالة استثنائية في النظام الدولي المعاصر. ففي عام 1991 أعلنت انفصالها الأحادي، لا بوصفه تمردًا عابرًا، بل كمحاولة واعية لإعادة إنتاج دولة كانت قائمة قبل اتحادها الطوعي مع الصومال. ومنذ ذلك التاريخ، نجحت في بناء كيان سياسي مستقر نسبيًا، يمتلك مؤسسات دولة عاملة، ويسيطر على إقليمه، ويدير علاقات خارجية محدودة، رغم غياب الاعتراف الدولي الرسمي. هذه التجربة، بكل تناقضاتها، لم تعد مجرد حالة أفريقية هامشية، بل تحولت إلى نموذج يثير أسئلة جوهرية أمام الحركات السياسية الساعية لتأسيس دول جديدة خارج إطار الاعتراف الأممي، وفي مقدمتها المجلس الانتقالي الجنوبي في جنوب اليمن.
السؤال المركزي هنا ليس فقط: هل يمكن تحويل الأمر الواقع إلى دولة؟ بل: كيف يمكن لهذا الواقع أن يستمر، وأن يفرض نفسه، وأن يخلق شرعية تتجاوز غياب الاعتراف؟ من منظور القانون الدولي، لا يُعد الاعتراف شرطًا لقيام الدولة، بل هو في جوهره إقرار بواقع قائم. فوفقًا لمعايير اتفاقية مونتيفيديو لعام 1933، تقوم الدولة على أربعة عناصر أساسية: شعب دائم، وإقليم محدد، وحكومة فعّالة، وقدرة على الدخول في علاقات مع الدول الأخرى. وعمليًا، استطاعت أرض الصومال أن تستوفي هذه الشروط دون سند دولي؛ إذ بنت مؤسسات تشريعية وتنفيذية وقضائية، ونظمت انتخابات دورية، وفرضت سيطرة أمنية كاملة على إقليمها، وامتلكت سياسة خارجية نشطة نسبيًا.غير أن المعضلة لم تكن قانونية بقدر ما كانت سياسية. فقد اصطدمت التجربة برفض دولي واسع، نابع من خشية المجتمع الدولي من تشجيع أي سابقة انفصالية في أفريقيا قد تفتح الباب أمام تفكيك الدول القائمة (رغم حدوثها بعد ذلك في السودان عندما انفصل جنوب السودان!). ومع ذلك، لم يكن نجاح أرض الصومال معتمدًا على دعم خارجي أو مظلة دولية، بل على شرعية داخلية صلبة تشكلت عبر توافق اجتماعي وعشائري عميق، ومصالحة داخلية طويلة، ونظام حكم هجين جمع بين البنى التقليدية ومؤسسات الدولة الحديثة. هذه الشرعية الداخلية عوّضت، إلى حد بعيد، غياب الشرعية الدولية، وحولت الكيان إلى ما يمكن تسميته بـ«الدولة الفعلية» القادرة على الاستمرار.هنا تحديدًا تبرز نقطة التقاطع مع الحالة الجنوبية في اليمن. فالمجلس الانتقالي الجنوبي يمتلك قاعدة شعبية معتبرة، وسردية سياسية واضحة قائمة على استعادة الدولة (أي جمهورية اليمن الديمقراطية قبل دخولها في حدة طوعية 1990)، ويمارس سيطرة فعلية على الأرض في مساحات واسعة. غير أن الفارق الجوهري يكمن في أن الجنوب اليمني لا يزال ساحة نزاع إقليمي ودولي مفتوح، بينما نشأت أرض الصومال في فراغ نسبي من التنافس الدولي المباشر، ما أتاح لها هامش حركة أوسع لبناء مؤسساتها بعيدًا عن ضغوط الاصطفافات الكبرى.رغم أوجه التشابه، فإن القياس بين أرض الصومال وجنوب اليمن يجب أن يتم بحذر. فاليمن لا يزال معترفًا به دوليًا كدولة موحدة، كما أن المجلس الانتقالي يعمل ضمن منظومة شرعية قائمة معترف بها دوليًا -مجلس القيادة الرئاسي-، وليس خارجها بالكامل كما فعلت أرض الصومال. لكن في المقابل، يمتلك الجنوب عناصر قوة إضافية: موقع جيوسياسي بالغ الأهمية، سيطرة فعلية على الموانئ الحيوية، شراكات إقليمية فاعلة، وخبرة مؤسساتية متراكمة من دولة سابقة معترف بها دوليًا حتى عام 1990.ومع غياب الاعتراف الدولي، لم تنكفئ أرض الصومال على ذاتها، بل انتهجت سياسة خارجية براغماتية قائمة على الدبلوماسية غير الرسمية. فأنشأت مكاتب تمثيل، ووقعت اتفاقات اقتصادية وأمنية، وبنت علاقات ثنائية وظيفية مع دول مثل إثيوبيا وتايوان وعدد من الشركاء الأوروبيين. لم تسعَ هذه العلاقات إلى شرعنة الدولة قانونيًا، بل إلى جعلها شريكًا نافعًا ومستقرًا في بيئة إقليمية مضطربة. وهنا تتجلى إحدى أهم الدروس للحالة الجنوبية: الدولة لا تُبنى عبر الاعتراف أولًا، بل عبر تحويل الجغرافيا إلى قيمة استراتيجية، والاستقرار إلى سلعة سياسية مطلوبة، بحيث يأتي الاعتراف لاحقًا كنتيجة لا كشرط تأسيسي.وعلى الضفة الأخرى، تقدم كوسوفو نموذجًا مختلفًا لكنه لا يقل أهمية. فقد أعلنت استقلالها عام 2008 بدعم غربي واضح، في مواجهة رفض صربي وروسي صريح. ورغم أن إعلان الاستقلال ذاته لم يكن مخالفًا للقانون الدولي – كما أكدت محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري عام 2010 – إلا أن هذا الحكم لم يترجم إلى اعتراف دولي كامل، بل إلى اعتراف جزئي تحكمه الاصطفافات الدولية. وهكذا تحولت كوسوفو إلى دولة معترف بها من بعض الدول، ومرفوضة من أخرى، وبقي وضعها القانوني رهينة التوازنات السياسية.تكشف تجربة كوسوفو حقيقة مركزية في النظام الدولي: القانون لا يمنع الانفصال، لكنه لا يفرض الاعتراف. فالاعتراف قرار سياسي بامتياز، يخضع لمصالح الدول الكبرى وحساباتها، لا لنصوص القانون وحدها. وبالمقارنة مع أرض الصومال، نلاحظ أن الأولى تمتلك شرعية داخلية عالية واستقرارًا أمنيًا نسبيًا دون اعتراف، بينما تمتلك الثانية اعترافًا جزئيًا ودعمًا خارجيًا قويًا، لكنها تعاني هشاشة داخلية واستقطابًا مستمرًا.في هذا السياق، تبدو الحالة الجنوبية وكأنها تقف في منطقة وسطى بين النموذجين. فهي تملك عناصر الدولة الواقعية كما في أرض الصومال، وتمتلك في الوقت ذاته قابلية مستقبلية لمسار اعتراف جزئي شبيه بكوسوفو، إذا ما طرأت تحولات إقليمية ودولية مواتية. إلا أن ذلك يضع المجلس الانتقالي الجنوبي أمام خيار استراتيجي بالغ الحساسية: إما السعي المبكر للاعتراف، بما يحمله من مخاطر الصدام الدولي وتعقيد الصراع، أو التركيز على بناء دولة أمر واقع مستقرة، تجعل الاعتراف نتيجة لاحقة لمسار طويل من التراكم السياسي والمؤسسي.تجربتا أرض الصومال وكوسوفو تقدمان، في المحصلة، دروسًا عملية واضحة: أولوية الشرعية الداخلية على الاعتراف الخارجي، ضرورة بناء مؤسسات فاعلة قبل إعلان الدولة رسميًا، إدارة العلاقات الخارجية ببراغماتية عالية، تجنب التصعيد القانوني غير المحسوب عبر إدارة الصراع مع المركز القانوني القائم لمجلس القيادة الرئاسي دون القطيعة الكاملة معه، والاستثمار في الأمن والاستقرار بوصفهما أدوات دبلوماسية بحد ذاتهما.لقد أثبتت أرض الصومال أن الدولة يمكن أن توجد وتعمل وتستمر حتى دون اعتراف دولي، كما أثبتت كوسوفو أن الاعتراف قد يتحقق جزئيًا دون حسم نهائي. وبين هذين النموذجين، يقف المجلس الانتقالي الجنوبي أمام فرصة تاريخية لا تتعلق باستنساخ تجربة بعينها، بل بقراءة واعية لمسارات بناء الدولة في عالم لا تحكمه القواعد وحدها، بل موازين القوة، والصبر السياسي، والقدرة على تحويل الواقع إلى شرعية.باوزير يكتب: تجربة أرض الصومال و كوسوفو: قراءة قانونية-سياسية في التجربتين – دروس للمجلس الانتقالي الجنوبي
د. باسل باوزير
باوزير يكتب: تجربة أرض الصومال و كوسوفو: قراءة قانونية-سياسية في التجربتين – دروس للمجلس الانتقالي الجنوبي
مدار الساعة ـ