أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات مجتمع وظائف للأردنيين أحزاب أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات مقالات مختارة مناسبات جاهات واعراس مستثمرون شهادة الموقف جامعات بنوك وشركات خليجيات مغاربيات دين اخبار خفيفة ثقافة رياضة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

'الشموسة' وحدود الحماية القانونية للمستهلك


أ. د. ليث كمال نصراوين
أستاذ القانون الدستوري – عميد كلية الحقوق في جامعة الزيتونة

'الشموسة' وحدود الحماية القانونية للمستهلك

أ. د. ليث كمال نصراوين
أ. د. ليث كمال نصراوين
أستاذ القانون الدستوري – عميد كلية الحقوق في جامعة الزيتونة
مدار الساعة (الرأي الأردنية) ـ

يتابع الرأي العام الأردني هذه الأيام التطورات المرتبطة بوفاة عدد من المواطنين الأردنيين جراء استخدام وسيلة تدفئة غير آمنة باتت تُعرف بقضية "الشموسة". وقد تجاوزت هذه القضية حدود الواقعة الفردية لتغدو شأناً عاماً يمس شعور الناس بالأمان داخل بيوتهم، وتثير أسئلة قانونية ودستورية جوهرية حول مسؤولية الدولة عن حماية الأفراد، وحدود الرقابة على المنتجات الوطنية، وفاعلية التشريعات في منع المخاطر قبل وقوعها، لا الاكتفاء بملاحقتها بعد أن تسقط الأرواح أو تتسع دائرة الأضرار.

إن المنطلق الدستوري في هذا السياق يقوم على أن حماية الإنسان ليست شعاراً سياسياً ولا استجابة ظرفية، بل هي مقتضى أصيل من مقتضيات الدولة الدستورية. فالحق في الحياة وسلامة البدن يتقدمان على سائر الاعتبارات، ويشكلان الشرط السابق لممارسة باقي الحقوق والحريات. وحين يتعرض المواطن لخطر جسيم بسبب منتج أساسي يُطرح في الأسواق دون ضمانات كافية، فإن الأثر لا يقتصر على فرد بعينه، بل يمتد ليهز الثقة العامة بقدرة القانون على تأمين الحد الأدنى من الأمان في تفاصيل الحياة اليومية.

ومن هذه الزاوية، كشفت قضية "الشموسة" أن الإشكال ليس دائماً في غياب النصوص القانونية، بل في محدودية فاعليتها عند اختبارها بخطر يمس السلامة العامة. فقانون حماية المستهلك لعام 2017 يبدو في بنيته التشريعية أقرب إلى قانون علاجي يُفعّل بعد وقوع الضرر، لا إلى قانون وقائي يحول دون وقوعه. فأحكامه تميل في معظمها إلى تنظيم ما بعد الحادثة، من تعويض أو استبدال أو مساءلة، في حين تغيب الآليات الإلزامية الواضحة للمنع المسبق أو للسحب الفوري أو للتحذير العلني ضمن أطر زمنية قصيرة عند قيام خطر داهم. وفي القضايا التي تمس الأرواح وسلامة الأبدان، لا تستقيم معادلة "التعويض بعد الفاجعة"، لأن جوهر الحماية القانونية يقتضي أن يكون المنع سابقاً للضرر لا لاحقاً له.

ويتعمق القصور عندما تُعالج مفاهيم أساسية مثل "سلامة السلعة" و"الاستعمال العادي" بصياغات عامة تفتقر إلى معايير قابلة للقياس والتنفيذ. فالأسواق كثيراً ما تتذرع بعبارات من قبيل "الاستعمال على مسؤولية المشتري" أو الالتزام بإرشادات السلامة"، في حين تقتضي الحماية القانونية أن يظل المنتج آمناً في حدوده الفنية الطبيعية، وألا تتحول الإرشادات إلى وسيلة لنقل المسؤولية القانونية إلى المستهلك. وتفضي هذه المرونة إلى إثقال عبء الإثبات على المتضرر، وتوسيع مساحة التقدير، وتأخير القرار الحاسم، في وقت يكون فيه عامل الزمن حاسماً في تفاقم الضرر.

ويتصل بذلك اتصالاً مباشراً قانون المواصفات والمقاييس لعام 1994 بوصفه الذراع الفنية لحماية المجتمع من المنتجات الخطرة. فالمواصفة ليست نصاً تقنياً محايداً، بل قاعدة تنظيمية هدفها الوقاية. وعندما يظهر خطر جسيم، فإن السؤال لا يقتصر على مطابقة منتج لمواصفة من عدمها، بل يمتد إلى سرعة الانتقال من الاشتباه الفني إلى القرار القانوني بالسحب والمنع والتحذير. وقد أظهرت تطورات القضية الحالية أن التدخل لإيقاف التداول لم يكن بالسرعة التي يفرضها خطر يتصل بحياة الناس، وهو ما يسلط الضوء على ضعف التكامل بين نتائج الفحوص الفنية وأدوات التدخل السريع لحماية المواطنين.

وعند هذه النقطة تبرز المسؤولية الإدارية بوضوح، فصلاحيات الرقابة على الأسواق لا تُفهم بوصفها ترفاً إدارياً أو خيارات قابلة للتأجيل، بل كواجبات قانونية في مواجهة خطر يهدد السلامة العامة. فإذا وقع تقاعس أو تأخر غير مبرر في التحذير أو السحب رغم توافر مؤشرات فنية جدية، فإن الأمر يتجاوز النقد العام إلى مساءلة قانونية وفق القواعد العامة متى أمكن إقامة علاقة سببية بين الخطأ والضرر. ويلاحظ في هذا السياق أن الخطاب الإعلامي المحلي يفيض بأخبار الوفيات والإصابات، مقابل حضور محدود لقضايا الكشف المبكر والردع الفعّال للمنتجات المخالفة، بما يعكس أن التحرك لا يزال، في كثير من الأحيان، لاحقاً للحدث لا سابقاً له.

أما من الزاوية الجزائية، فعندما تقترن الوقائع بوفاة أو إصابات جسيمة ناجمة عن منتجات غير صالحة للاستعمال، ينحصر التكييف الجرمي في الغالب ضمن نطاق التسبب بالوفاة أو الإيذاء نتيجة الإهمال أو عدم الاحتراز، مع ما يرافق ذلك من دفوع قانونية تُحمّل المستهلك مسؤولية الإخلال بواجب الحيطة والحذر. وتبرز هنا معضلة عملية تتمثل في تحول التقاضي الجزائي، ومن بعده التعويض المدني، إلى مسار طويل ومعقد، بما يضعف أثر الردع الفوري ويؤخر جبر الضرر على نحو لا ينسجم مع طبيعة الخطر القائم.

وفي ظل هذا الواقع، جاء تدخل الحكومة بعد اتضاح خطورة القضية بسلسلة من الإجراءات شملت فتح تحقيقات فنية وقانونية، وتوسيع نطاق الفحوصات، واتخاذ قرارات بسحب المنتج ومنع تداوله، غير أن قيمة هذه الإجراءات لا تكمن في تعدادها، بل في استكمالها ضمن نهج مؤسسي واضح يضمن الجدية والشفافية، ويقود إلى مساءلة فعّالة وتحديث معايير السلامة وتفعيل الرقابة المسبقة، بما يعزز ثقة المواطن بقدرة الدولة على حمايته ويحد من تكرار مثل هذه المخاطر.

مدار الساعة (الرأي الأردنية) ـ