أخبار الأردن اقتصاديات دوليات وفيات برلمانيات أحزاب مجتمع وظائف للأردنيين تبليغات قضائية مقالات مقالات مختارة أسرار ومجالس الموقف مناسبات جاهات واعراس مستثمرون شهادة جامعات خليجيات مغاربيات دين بنوك وشركات اخبار خفيفة ثقافة رياضة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

صرخة في أروقة التعليم


إيمان الحنيطي

صرخة في أروقة التعليم

مدار الساعة ـ

في متاهات الأروقة المدرسية اليوم، يتسكع الطالب كشبحٍ معرفي، مجرّد من الرؤى، يلوك أجسام الحروف وأشلاء الأرقام بين أنامل معلم بات سجانًا للمنهج، لا يملك مفتاحًا لقلبه، ولا قدرة على زرع نجم القيمة ليقود وجدانه. خطواته تتعثّر على أرض بلا جذور، وأحلامه تتطاير كأوراق شجرة بلا ظل، بينما الجدران الصامتة تحاكي صدى ضياع الروح والفضيلة. المدرسة، التي كانت يومًا منارة تهدي العقل والوجدان، باتت الآن قفصًا من الصمت، حيث يُقاس النجاح بميزان بلا قلب، وتنطفئ شموع الفضيلة الواهية تحت سيل الحفظ والتلقين. هذه الصورة المؤلمة تعكس فشل المنظومة في إدراك جوهر التعليم. فقد تحوّل الطالب إلى كائن تفاعلي بلا وعي، والقياس أصبح مجرد أرقام، ما يهدد بتصدّع الشخصية واستحالة بناء جيل متوازن فكريًا وأخلاقيًا.

المدرسة، التي كانت يومًا منارةً تضيء العقل والروح، محرابًا يُعبد فيه الإنسان قبل أن يُدرس المنهاج، تحوّلت اليوم إلى مذبح ميكانيكي، يُقاس فيه النجاح بعدد الإجابات الصحيحة، لا بسعة البحر الذي يحتضن الفكر أو عمق الوعي المستنير. التدريس صار مجرد نقل جاف للمعلومات، بلا نبض ولا روح، والتربية صارت أرملةً غائبة، تترك جيلًا مهزوزًا يسبح في رمال المعرفة المتحركة، بلا عمق يرسو عليه، بلا جذور تشده للأرض، وبلا شعاع داخلي ينير خطواته ويقوده نحو الحقيقة والمعنى. هذا التحوّل يهدم روح المبادرة والإبداع لدى الطلاب، ويضعف قدرة النظام على صقل مواهب الجيل بشكل شامل ومستدام.

ولنقارن بفجر الأمس القريب، حيث كان التعليم رحلةً صوفية تتجاوز الورق والدفتر وكان المعلم حكيمًا ومزارعًا للقيم، ينفخ في طلابه روح التساؤل وشغف الاكتشاف، ويمنحهم فسحةً مقدسةً لاحتضان المعرفة حتى تتجذر في تربة العقل والضمير. وكانت المناهج رواسي معرفية، تحفظ عطر اللغة وبلاغتها، وسماء القيم والدين، لتصوغ عقلًا كالنجم وقلبًا كالمشكاة. كان الطالب يغادرها وقد اكتملت عدّته، أدوات فكرٍ مصقولة، وبوصلة وجدان لا تخطئ، وقيم كالشمس لا يحجبها غيم يضيء دربه. المقارنة بالماضي تكشف خطورة المسار الحالي، حين كان التعليم يجمع بين العقل والروح، كان الطالب يكتسب أدوات تحليلية وفكرية تمكنه من مواجهة الحياة بثقة واستقلالية، وهو ما يُفقد اليوم نتيجة تغيّر الأولويات وضياع الثوابت.

مأزق اليوم أشد قسوة. تغييرات المناهج كسيول جارفة، وقرارات إدارية كالعواصف الرملية، ونزع بلاغة النحو ونور العقيدة، جعلت الطالب يتخبط في صحراء الحيرة، يلهث خلف سراب المعلومة، بين يدي معلم بات ضحيةً للزمن، عاجزًا عن زرع أي بوصلة أخلاقية أو وتر إنساني. وتُجسد تجربة التوجيهي على سنتين رمزًا صارخًا لتقلب السياسات وضياع الثبات، إذ وضع الطالب في سباق مستمر مع الوقت، والقلق يلتهم أيامه، والمعلم يلهث خلف إنجاز المنهج دون فرصة لزرع القيم أو صقل مهارات التفكير النقدي، فزاد الارتباك بدلًا من الاستقرار، وارتسمت أمام الطالب تحديات جديدة تتراوح بين ضغط الامتحانات، ضياع الإحساس بالجدوى، وغربة البوصلة التعليمية التي كانت يومًا دليله في رحلة التعلم. المعلم، الذي كان فارس الوعي والرسالة، أصبح كمن ينحت في الجليد، ينقل المعرفة كجثة باردة، بلا فرصة لإيقاد جذوة الحوار، أو غرس شجرة الفضيلة، أو اكتشاف كنوز الإبداع. هذا التيه يعكس خللاً بنيويًا في المنظومة التعليمية، إذ يؤدي تغيّر السياسات والعشوائية في إدارة المناهج إلى فقدان الطالب لمهارات التفكير النقدي، ويضعف دوره كمشارك فعال في العملية التعليمية بدل أن يكون متلقّيًا سلبيًا.

هذه الفوضى ليست مجرد خفقان إداري، بل انكسار في مرآة الرؤية التربوية الشاملة. القرارات المرتجلة تركت الطالب كغصن مقطوع، هشًا، يفتقد أدوات اللغة للتعبير عن أعماق ذاته، ومحرومًا من النجم الذي يهديه في مسالك الحياة. اللغة، التي كانت بناء الفكر ومهندسته، أصبحت هياكل عظمية للرموز، والبلاغة التي كانت نسغًا للروح، باتت مغارة مهجورة، والتعليم القيمي وشم على جدار بلا نبض أو حياة. تراجع الاهتمام باللغة والبلاغة والتعليم القيمي لا يؤثر على التحصيل الأكاديمي فحسب، بل يهدم الأساس الفكري والوجداني للشخصية، ويجعل الطالب عرضة للتأثر بالسطحية وتبني قيم سطحية، بدل أن يكون واعيًا ومستقل القرار.

الإصلاح يتطلب زلزالًا معرفيًا صامتًا، لكنه هزّة للضمير. إعادة المعلم إلى عرش قيادته التربوية، منح المناهج رسوخ الجبال وعمق البحار، إعادة المقدسات الثلاث، البلاغة، النحو، والتعليم الديني، إلى صميم الوجود التعليمي، وإشراك أرباب الفكر التربوي الحقيقيين في رسم المسار، بعيدًا عن التعيينات العرجاء والسياسات الظرفية. المدرسة يجب أن تعود روضة للروح والفكر، مكانًا تنمو فيه أغصان العقل وجذور القلب متآلفة، ليخرج الطالب حاملًا مشعل المعرفة ودرع القيمة، قادرًا على التفكير كالفيلسوف، والتعبير كالشاعر، والإبداع كالفنان. الإصلاح المقترح ليس مجرد تعديل شكلي، بل إعادة بناء منظومة متكاملة تربط المعرفة بالقيم، وتستعيد ثقة المعلم بدوره، وتمنح الطالب القدرة على الانخراط في المجتمع بوعي وإبداع ومسؤولية.

التعليم بلا تربية تيه، والمناهج بلا استقرار فناء، والإدارة بلا رؤية خراب وجودي يهدد مصير الأمة. حين نعيد للمعلم روح الرسالة، وللمناهج قدسيتها، سيخرج الجيل القادم كما كان، عمادًا متوازنًا، قادرًا على مواجهة التحديات بعقل يزن وضمير يستفتي، مزوّدًا بلسان عربي مبين وقيم راسخة، بدل أن يكون طفلًا تائهًا بين حفظ بلا استيعاب، وتلقين بلا جدوى، وهوامش معرفية بلا منزل. استعادة التوازن بين التعليم والتربية هي حماية للهوية الوطنية والاجتماعية، وتمنع انهيار القيم الثقافية والفكرية، وتضمن إنتاج جيل قادر على قيادة مستقبله ومجتمعه.

إن استعادة التعليم ككيمياء مقدسة بين العقل والقلب ليست ترفًا، بل شهادة وجود وبقاء الهوية. فالجيل الذي لا يمتلك لغة عقله ولا بوصلة أخلاقه، هو جيل هش زائل، تائه بين أوهام الحفظ والنسيان، بلا جذور تمسك، بلا أفق يدعوه، وبلا نبض يستشعره. التعليم الذي يوحّد بين الفكر والوجدان، كما كان في العصور الذهبية، هو القادر وحده على إنقاذ الحاضر وصناعة المستقبل الخالد ولكن التفاصيل ماتت مع الوقت وتغيرت الحكايات..

مدار الساعة ـ