أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات أحزاب مجتمع وظائف للأردنيين تبليغات قضائية مقالات مقالات مختارة أسرار ومجالس الموقف مناسبات جاهات واعراس مستثمرون شهادة جامعات مغاربيات دين بنوك وشركات خليجيات اخبار خفيفة ثقافة رياضة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

منصور يكتب: من الحتمية التأويلية إلى الحتمية الخوارزمية.. رحلة المعنى في الفضاء الرقمي


أ.د. تحسين منصور
قسم الصحافة والإعلام والاتصال الرقمي – الجامعة الأردنية

منصور يكتب: من الحتمية التأويلية إلى الحتمية الخوارزمية.. رحلة المعنى في الفضاء الرقمي

أ.د. تحسين منصور
أ.د. تحسين منصور
قسم الصحافة والإعلام والاتصال الرقمي – الجامعة الأردنية
مدار الساعة ـ

ماذا لو كانت قراءتك لهذا المقال الآن متأثرة بخوارزمية قررت أن تُظهره لك بناءً على تفاعلك السابق؟

السؤال يبدو صادماً، لكنه يعكس واقعاً جديداً في علاقتنا بالمحتوى الرقمي. فكل يوم نفتح فيه فيسبوك أو غيره من منصّات التواصل نغوص في بحر من المنشورات والتعليقات والتأويلات التي تتصارع لتحديد “المعنى الحقيقي” لأي خبر أو بيان. ومع أن الاختلاف في الفهم أمر طبيعي، إلا أن اشتعال الجدل السريع حول أبسط المنشورات يطرح سؤالاً أعمق: هل ما نفهمه هو فعلاً "قراءتنا"؟ أم نتيجة سياق صُمّم لنا مسبقاً؟

يعرف الباحثون منذ زمن أن كل رسالة إعلامية تحتاج إلى تفسير يقوم به المتلقي وفق خلفيته وثقافته وتجربته. لكن مع المنصّات الرقمية، لم يعد المتلقي وحده على المسرح.

فمنشور صحي بسيط حول إلزامية تطعيم الأطفال تحوّل خلال 48 ساعة إلى نموذج مصغّر عن “معركة المعنى” في الفضاء الرقمي. إذ انقسمت التعليقات إلى أربع مقاربات تأويلية: المؤامراتي، الأخلاقي/الوالدي، الساخر، والمتشكك في المصداقية.

إلى هنا، قد يبدو الأمر انعكاساً طبيعياً لتنوع الشخصيات والآراء. لكن الدور الخفي لا يظهر إلا حين ننظر إلى كيف رتّبت المنصّة هذه التعليقات.

ما لا يعرفه كثيرون أن ترتيب التعليقات ليس عشوائياً ولا زمنياً، بل خاضع لمعادلة معقدة تُعرف اختصاراً بـ “الخوارزمية". وهذه الخوارزمية تفضّل عادة المحتوى الذي يثير تفاعلاً سريعاً — سواء كان غضباً أو سخرية أو دهشة — لأنه يزيد من احتمال بقاء المستخدم على المنصة لفترة أطول.

وبذلك، عندما يدخل مستخدم جديد إلى المنشور، فإن أول ما يواجهه غالباً هو:

• التعليقات الأكثر غضباً،

• أو أكثر سخرية،

• أو الأكثر جدلاً…

بغض النظر عن حجمها أو منطقيتها أو تمثيلها للرأي العام. وهنا يبدأ التأويل قبل أن يقرأ المستخدم النص الأصلي فعلياً.

لم يعد إنتاج المعنى فعلاً فردياً بين القارئ والنص، بل أصبح عملية اجتماعية-خوارزمية تشارك فيها ثلاثة أطراف:

النص + الجمهور + المنصّة.

فالمنصة لم تعد ناقلاً محايداً، بل ممثلاً إضافياً يوجّه – دون أن يصرّح – التأويلات التي نتعرض لها أولاً.

وبذلك تتشكل لدينا بيئة فهم مصممة جزئياً وفق مصلحة الخوارزمية، لا بالضرورة وفق دقة المعلومة.

إنها حالة جديدة يمكن وصفها بـالحتمية التأويلية المتفاعلة أو الخوارزمية: المعنى لم يعد يُنتج فقط من داخل عقولنا، بل أيضاً من داخل أنظمة برمجية تسهم في ترتيب ما نراه ونقرأه ونناقشه.

لم يعد كافياً أن نحلل النص أو نسأل عن خلفية المتلقي. علينا مراقبة:

• أي التأويلات تُ BOOST-ت فعلياً؟

• كيف يتضخم رأي صغير لأنه “أكثر استفزازاً”؟

• ولماذا يصبح الجدل أكثر وضوحاً من الحقائق؟

الفهم الحقيقي للخطاب الرقمي يحتاج إلى منهجيات تدمج بين التحليل النوعي للأفكار، والتحليل الرقمي للانتشار الخوارزمي.

في المرة القادمة التي تجد فيها نفسك حائراً أمام منشور اشتعلت فيه التعليقات،

توقف لحظة واسأل نفسك:

هل هذا هو رأيي حقاً؟

أم أنه الرأي الذي خُصّص لي أن أراه أولاً؟

مدار الساعة ـ