أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات أحزاب مجتمع وظائف للأردنيين مقالات مقالات مختارة أسرار ومجالس تبليغات قضائية الموقف مناسبات جاهات واعراس مستثمرون شهادة جامعات دين بنوك وشركات خليجيات مغاربيات اخبار خفيفة ثقافة رياضة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

عبيدات يكتب: من قانون السير إلى واقع الطريق: لماذا لا تنخفض أرقام الحوادث؟


طارق راتب عبيدات

عبيدات يكتب: من قانون السير إلى واقع الطريق: لماذا لا تنخفض أرقام الحوادث؟

مدار الساعة ـ

من يقرأ إحصائية الحوادث المرورية في الأردن لعام ٢٠٢٤ يدرك أن ما يجري على طرقنا ليس تفصيلا عابرا. خلال عام واحد سُجِّل في المملكة عدد حوادث بلغ ١٩٠٬١٧٥ حادثا، منها ١١٬٩٥٠ حادثا نتجت عنها إصابات بشرية، وأسفرت عن ٥٤٣ حالة وفاة و١٨٬٢٧٥ إصابة بين بليغة ومتوسطة وبسيطة.

هذه الوقائع تحمل معها كلفة إنسانية مؤلمة، لكنها تحمل أيضا كلفة مالية ضخمة. تقديرات المجلس الأعلى للسكان تشير إلى أن التكلفة المباشرة وغير المباشرة لحوادث السير في عام ٢٠٢٤ بلغت نحو ٩٥٨ مليون دينار، أي ما يعادل ٢٫٨٪ من الناتج المحلي الإجمالي.

بمعنى آخر، ما نخسره على الطرق يوازي ميزانيات قطاعات كاملة نحتاجها في التعليم والصحة والتنمية.

عند النظر في التفاصيل يتبين أن أصل المشكلة معروف. التقارير الرسمية نفسها تؤكد أن ٩٧٫١٪ من الحوادث سببها السائقون، وأن ٨٩٪ من هؤلاء من الذكور، وأن الفئة العمرية من ١٨ إلى ٣٥ عاما هي الأكثر تورطا في الحوادث والأكثر تضررا من آثارها. كما تشير الأرقام إلى أن حوالي ٤٢٪ من الوفيات هم من المشاة، أي من أشخاص كانوا يحاولون العبور أو السير بمحاذاة الطريق.

هذه المؤشرات تقول بوضوح إن الخلل الأساسي في سلوك استخدام الطريق وفي طريقة إدارة الحركة عليه.

في المقابل، لم يُترك الملف بلا إطار. في السنوات الأخيرة أعيد تشكيل المجلس الأعلى للسلامة المرورية، وأُقرت الاستراتيجية الوطنية للسلامة المرورية للأعوام ٢٠٢٤–٢٠٢٨، مع خطة تنفيذية تضم ٥٠ مشروعا و٢٨ برنامجا ونشاطا تتوزع بين الجهات المعنية.

كما جرى تحديث قانون السير وتفعيل نظام النقاط المرورية، وتوسعت أنظمة الرقابة بالكاميرات داخل المدن وعلى الطرق الخارجية. هذه خطوات مهمة تعكس اعترافا رسميا بأن السلامة المرورية ملف يحتاج إلى معالجة شاملة لا إلى حلول جزئية.

مع ذلك، ما يراه المواطن كل يوم على الطريق يطرح سؤالا بسيطا ومباشرا: لماذا لا تنخفض الأرقام رغم وجود هذه المنظومة التشريعية والمؤسسية؟

جزء من الإجابة يبدأ من اللحظة التي يدخل فيها الشاب أو الشابة إلى مراكز تعليم القيادة. في كثير من الحالات يصبح الهدف الأساسي هو النجاح في الامتحان النظري والعملي بأسرع وقت، لا بناء فهم حقيقي لمسؤولية قيادة مركبة في بيئة مرورية مزدحمة. إذا لم تكن ثقافة السلامة جزءا أساسيا من التدريب منذ البداية، فمن الطبيعي أن تظهر لاحقا مخالفات خطرة مثل السرعة الزائدة، وعدم الالتزام بأولوية المرور، واستخدام الهاتف أثناء القيادة.

جزء آخر يتعلق بالصورة الذهنية عن القيادة. ما زالت هناك فئة تنظر إلى الالتزام بالسرعة أو التوقف الهادئ عند الإشارة أو إعطاء الأفضلية للمشاة على أنه نوع من التنازل، بينما تُفهم المناورة الحادة أو تجاوز الإشارة الصفراء أو السير قريبا من حافة الرصيف باعتبارها مهارة. هذا النوع من الثقافة لا يبدده النص القانوني وحده، بل يحتاج إلى عمل متواصل في الإعلام والمدرسة والجامعة ومواقع التواصل، وإلى قدوة إيجابية في البيت والعمل والشارع.

ثم تأتي بيئة الطريق نفسها. هناك تقاطعات ونقاط معروفة بكثرة الحوادث حولها، تظهر فيها مشكلات متكررة في الرؤية أو الانسياب أو أماكن عبور المشاة. معالجة هذه المواقع أولوية رئيسية في أي خطة جادة للسلامة المرورية، وقد تضمنتها بالفعل مشاريع النموذج الهندسي ومعالجة النقاط السوداء ضمن الاستراتيجية الوطنية. لكن نجاح هذه المعالجات يحتاج إلى سرعة في التنفيذ وربط واضح بين ما ترصده الإحصاءات وما يجري على الأرض في الشوارع.

وعندما ننظر إلى تجارب دول أخرى، نكتشف أن الطريق إلى خفض أعداد الحوادث ليس مستحيلا، لكنه يحتاج إلى مزيج واضح من الحزم والتخطيط. في السويد مثلا تبنت الحكومة منذ نهاية التسعينيات ما عُرف برؤية "صفر وفيات على الطرق"، واعتمدت سياسة تقوم على خفض السرعات داخل المدن، وإعادة تصميم التقاطعات، وتوسيع استخدام الدوّارات، وتشديد الرقابة على حزام الأمان والقيادة تحت تأثير الكحول. خلال أعوام متتالية انخفض عدد الوفيات المرورية إلى أقل من ٣ حالات وفاة لكل مئة ألف نسمة، وهو من أدنى المعدلات في العالم. وفي بريطانيا أدت سياسة السرعات المحددة بدقة داخل الأحياء السكنية، وربط المخالفات بنظام نقاط واضح، إلى تخفيض وفيات المشاة والأطفال بشكل ملحوظ خلال العقدين الماضيين. وفي الإمارات، ساهمت حملات مرتبطة مباشرة بتشديد الضبط على السرعة وحزام الأمان، إلى جانب تطوير البنية التحتية، في خفض أعداد وفيات الحوادث بنسبة كبيرة مقارنة ببداية الألفية.

هذه التجارب ليست لاستنساخها حرفيا، لكنها تبيّن أن النجاح يأتي حين تلتقي ثلاثة عناصر: قانون واضح، وبنية تحتية مدروسة، وثقافة عامة لا تتسامح مع السلوك الخطر على الطريق. وهي عناصر يمكن تكييفها مع الواقع الأردني إذا جرى النظر إلى الطريق كمنظومة كاملة، لا كمجرد مساحة إسفلت.

عنصر مهم آخر هو شعور السائق بعدالة التطبيق. القانون مهما كان صارما يصبح ضعيفا إذا شعر الناس أن احتمال رصد المخالفة الخطرة منخفض، أو أن العقوبة يمكن تجاوزها بسهولة. وعندما تكون الرسالة واضحة بأن تجاوز السرعة كثيرا أو قطع الإشارة الحمراء أو القيادة بتعب شديد أو انشغال عن الطريق يقابلها رصد فعلي وإجراء حقيقي، يبدأ التغيير في القناعة قبل السلوك. هنا يتكامل دور الدوريات الميدانية مع أنظمة المراقبة الآلية، ويصبح التركيز على المخالفات الأكثر خطورة لا على التفاصيل الهامشية.

الاستراتيجية الوطنية للسلامة المرورية توفر إطارا يمكن البناء عليه، لكنها تحتاج إلى روح عمل يومي مشترك بين مؤسسات كثيرة. وزارة الداخلية والأمن العام يتحملان العبء الأكبر في إنفاذ القانون وتوجيه الرسائل المباشرة للمواطنين. وزارة النقل مع وزارة الأشغال والبلديات وأمانة عمّان مسؤولة عن هندسة الطرق وتطوير البنية التحتية التي تساعد السائق على الاختيار الصحيح. وزارة التربية والتعليم والجامعات يمكنها أن تجعل من السلامة المرورية موضوعا حاضرا في المناهج والأنشطة، ووزارة الصحة ترصد الأثر الصحي الكبير للحوادث على المستشفيات والكوادر الطبية.

في النهاية، أرقام الحوادث لعام ٢٠٢٤ ليست قدرا ثابتا، لكنها إنذار واضح. ارتفاع عدد الحوادث من ١٢٢٬٩٧٠ حادثا في عام ٢٠٢٠ إلى ١٩٠٬١٧٥ حادثا في عام ٢٠٢٤، مع بقاء عدد الوفيات في حدود ٥٤٣ حالة في العام الأخير، يقول إن الوقت ليس لصالحنا إذا بقيت المعالجة بطيئة ومتفرقة.

سلامة الطريق في الأردن هي صورة عن احترامنا لحياة الإنسان قبل أن تكون اختبارا لالتزامنا بقانون السير. عندما يدرك السائق أن المركبة التي يقودها يمكن أن تكون وسيلة وصول آمن أو أداة أذى، وعندما يشعر المشاة أن عبور الشارع حق يحترمه الجميع، وعندما تتحول أرقام الحوادث من منحنى صاعد إلى منحنى ينخفض عاما بعد عام، يمكن عندها القول إن قانون السير خرج من صفحات الجريدة الرسمية واستقر في سلوك الطريق. هذا هو الامتحان الحقيقي لكل جهد يبذل في هذا الملف، وهو الامتحان الذي يستحق أن ننجح فيه جميعا.

مدار الساعة ـ