يتساءل كثيرون: لماذا لا تصبح الانتخابات في الأردن إلكترونية، ما دام انتشار الإنترنت يتجاوز 90%، وعدد مستخدميه يفوق 7.5 مليون مستخدم، ونسبة انتشار الهواتف الخلوية تتخطى 113%، فيما تمتلك المملكة بنية تحتية رقمية متقدمة وجاهزية تكنولوجية تنافس دولاً رائدة في المنطقة؟
هذا السؤال بات حاضرا مع توسّع استخدام تطبيق "سند" وقدرته على إدارة خدمات حساسة مثل الهوية الرقمية وتغيير الدوائر الانتخابية، مما يعزز الانطباع بأن الأردن بات قريباً من خوض تجربة الاقتراع الرقمي.وأنا أرى، كبقية المهتمين بالتحول الرقمي، أن انتقال أي دولة إلى التصويت الإلكتروني عملية مركّبة تحتاج إلى توافقات وتشريعات وتجارب تشغيلية تضمن نجاحها واستدامتها. فالانتخابات عملية سيادية ترتبط بشرعية المؤسسات، ومع أن الأردنيين اعتادوا على الثقة بإجراءات الاقتراع الورقي، فإن الانتقال إلى نظام إلكتروني يتطلب إيضاحاً كاملاً لآليات احتساب الأصوات وكيفية ضمان السرية ومنع التلاعب، الأمر هنا لا يتعلق بتقليل الثقة بالتكنولوجيا، بل بضرورة طمأنة الجمهور عبر بناء نظام يُفهم بسهولة ويستوعبه المواطن والمراقب والحزب السياسي، ويقدم إجابات واضحة لكل سؤال يُطرح حول سلامة البيانات وشفافية النتائج.وفي الوقت نفسه، فإن انتشار الإنترنت الواسع في الأردن يشكّل قاعدة متينة يمكن البناء عليها، لكن هذا الانتشار لا يعني أن جميع المواطنين يمتلكون القدرة نفسها على استخدام التطبيقات الذكية أو الأجهزة الحديثة، لذلك يبدو ضرورياً توفير مراكز دعم وتدريب تساعد من ليست لديهم خبرة تقنية كافية على التعامل مع نظام التصويت الإلكتروني، بما يضمن عدم تحول التصويت الرقمي إلى عامل تمييز غير مقصود بين فئات المجتمع. وتجربة التصويت الإلكتروني، إذا ما نُفّذت بصورة صحيحة، من شأنها أيضاً أن توسّع قاعدة مستخدمي تطبيق "سند"، وتعزز التحول الرقمي الحكومي، وترفع مستوى الارتياح لدى المواطنين تجاه الخدمات الإلكترونية.وتبرز هنا أيضاً ميزة مهمة تتعلق برفع نسبة المشاركة في الانتخابات، فالشباب—وهم الشريحة الأكبر استخداماً للهواتف الذكية—قد يجدون في التصويت الإلكتروني أسلوباً أقرب لطبيعة حياتهم اليومية، ما قد ينعكس إيجاباً على نسب الإقبال، خصوصاً للذين يعزفون عن الذهاب إلى مراكز الاقتراع. كما أن التصويت الإلكتروني يوفر وقتاً وجهداً كبيرين، ويقلل الازدحامات التي ترافق يوم الانتخاب، ويخفف التعقيدات اللوجستية، من تجهيز مراكز الاقتراع إلى إدارة طوابير الناخبين.ومن زاوية أخرى، يبرز سؤال مهم: هل الإطار التشريعي الحالي يسمح بالتطبيق الإلكتروني؟ الواقع يشير إلى أن قانون الانتخاب يشترط الحضور الفعلي في مراكز الاقتراع، بينما التصويت الإلكتروني—خصوصاً عن بُعد—يحتاج إلى أسس قانونية جديدة تحدد معايير الرقابة والسرية واستخدام الهوية الرقمية، وهذا ليس عيباً في الفكرة بقدر ما هو توضيح لطبيعة الإجراءات المطلوبة قبل الانتقال إلى نموذج مختلف جذرياً عن النظام التقليدي.أما الجانب الأمني، فرغم التطور الكبير في قدرات الأمن السيبراني الأردني، إلا أن الانتخابات الإلكترونية تحتاج إلى مستويات أعلى من الحماية تشمل التشفير المتقدم، وأنظمة كشف التلاعب، وربما الاستفادة من تقنيات البلوكشين لضمان سجل غير قابل للتغيير، وهذه الأدوات متاحة ويمكن للأردن تطبيقها، لكن نجاحها يتطلب تجريباً على نطاق محدود قبل اعتمادها في انتخابات وطنية شاملة.ولهذا يبدو خيار التجربة المحدودة خطوة منطقية ومناسبة للواقع الأردني، فقد أثبتت التجارب الدولية أن تطبيقاً تجريبياً في انتخابات جامعية أو نقابية أو مجالس محلية يساعد على اختبار النظام، وبناء ثقة الجمهور، ومعالجة أي ثغرات تقنية أو لوجستية قبل الانتقال إلى مستوى أوسع. هذا النهج يوازن بين الطموح والواقعية، ويسمح للأردن بالاستفادة من بنيته التكنولوجية المتقدمة دون المجازفة بثقة المواطنين في العملية الانتخابية.في المحصلة، فإن سؤال "لماذا لا تكون الانتخابات إلكترونية؟" مشروع تماماً في بلد يمتلك بنية رقمية قوية واهتماماً واسعاً بالتحول الرقمي. والإجابة هي أن الانتقال ممكن، شريطة أن يتم تدريجياً، وضمن إطار قانوني واضح، وبآليات حماية تكنولوجية متقدمة، وبمشاركة واسعة من الجمهور في التجريب والتقييم، وبذلك يمكن للأردن أن يقدم نموذجاً متقدماً في تحديث العملية الانتخابية، يرفع المشاركة، ويعزز الشفافية، ويوفر الكلف والوقت، دون المساس بثقة المواطنين أو بسلامة العملية الديمقراطية.الصغير يتساءل: لماذا لا تصبح الانتخابات في الأردن إلكترونية؟
فلاح الصغير
عضو مجلس إدارة غرفة تجارة عمان
الصغير يتساءل: لماذا لا تصبح الانتخابات في الأردن إلكترونية؟
فلاح الصغير
عضو مجلس إدارة غرفة تجارة عمان
عضو مجلس إدارة غرفة تجارة عمان
مدار الساعة ـ