span style=" display: inline ;">مقدمة:
يُعد كتاب «حرب اليمن 1994: الأسباب والنتائج» للدكتور جمال سند السويدي من أوائل الأعمال العربية التي قاربت حرب صيف 1994 مقاربةً تحليليةً شاملة، تتجاوز منطق السرد العسكري إلى تفكيك البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي أسهمت مع عوامل أخرى إلى انهيار الشراكة الوطنية بعد أول تجربة وحدوية في تاريخ اليمن الحديث. وتنبع أهمية هذا العمل من كونه كُتب في لحظة زمنية قريبة من الحدث، بما يمنحه قيمة توثيقية وتحليلية مزدوجة، فضلًا عن طابعه الاستشرافي لما ستؤول إليه الأوضاع لاحقًا.إن إعادة الاهتمام بكتاب جمال السويدي بعد مرور مدة زمنية طويلة على صدوره تعكس وعيًا متجددًا بأهمية العودة إلى الجذور الفكرية للأزمات. وقد يشكّل هذا التوقيت مدخلًا ناضجًا لإعادة قراءة أسباب الحرب في اليمن بوعي أعمق. ومن هذا المنطلق، يمكن أن تتحول أفكاره إلى رافعة فكرية تُمهد لبلورة مسار حقيقي نحو إنهاء الصراع القائم.لا ينظر الكتاب إلى الحرب بوصفها لحظة تحول فقط، بل بوصفها سبباً كشف عن فشل مشروع الدولة الوطنية في استيعاب التناقضات البنيوية التي ورثتها من مرحلتي الانقسام والتجربة الاشتراكية والتقليدية.يعتمد الكتاب على أوراق علمية قُدمت في ندوة متخصصة، بما يمنحه طابعًا بحثيًا تعدديًا، ويخرجه من إطار الرأي الفردي إلى فضاء المقاربة المنهجية المقارنة.أولًا؛ جذور الانقسام وبنية الازدواج التاريخي:ينطلق التحليل من مسلمة أساسية مفادها أن اليمن لم يكن، في أي مرحلة حديثة من تاريخه، كيانًا سياسيًا متجانسًا. فقد تشكّل الشمال ضمن منظومة قبلية – تقليدية، في حين نشأ الجنوب في سياق دولة مركزية تأثرت بالنموذج الاشتراكي ومفاهيم التنظيم المؤسسي الحديث. هذا التباين لم يظل في حدود الاختلاف الإداري، بل اتخذ طابعًا بنيويًا طال أنماط الحكم، والعلاقة بين السلطة والمجتمع، وطرائق تشكيل الشرعية.ومن هذا المنطلق، يرى الكتاب أن وحدة 1990 جاءت نتيجة ظرف اقتصادي وسياسي ضاغط، أكثر من كونها ثمرة نضج تاريخي لمشروع وطني جامع. فالوحدة أُعلنت قبل اكتمال دمج المؤسستين العسكريتين، وقبل بناء قاعدة دستورية ومؤسسية صلبة قادرة على استيعاب الفوارق العميقة بين شريكي الوحدة.ثانيًا؛ من أزمة على السلطة إلى حرب شاملة:يتبنى الكتاب تفسيرًا دقيقًا للحرب بوصفها صراع نخب لا صراع مجتمعات. مركز الثقل في الأزمة — كما يُظهر التحليل — كان متمركزًا في قمة النظام السياسي، حيث تقاطعت ترتيبات تقاسم النفوذ وتآكل الثقة بين مراكز القرار.وقد تضافرت عوامل عدة داخلية وخارجية في دفع الصراع نحو الانفجار، من أبرزها:• الإخفاق في دمج القوات المسلحة ضمن مؤسسة وطنية واحدة.• تضارب المصالح الاقتصادية بين الطرفين.• الخلل في توزيع السلطة داخل مؤسسات الدولة.• اختلاف الرؤى بشأن شكل الدولة ووظيفتها بعد الوحدة.في هذا السياق، لعبت القوى السياسية، وفي مقدمتها التيار الإسلامي ممثلًا بحزب الإصلاح، أدوارًا وظيفية ضمن توازنات القوة، دون أن يتحول المسار نحو تسوية ديمقراطية حقيقية للصراع.ثالثًا؛ القبلية والإسلام السياسي في معادلة الحكم:يفكك الكتاب البنية القبلية بوصفها عنصرًا وسيطًا بين الدولة والمجتمع، لا مجرد تجمع اجتماعي تقليدي. فالقبيلة، وإن لم تكن صاحبة القرار الاستراتيجي، ظلت عنصرًا حاضرًا في حسابات النخب وفي ترجيح كفة هذا الطرف أو ذاك.أما التيار الإسلامي، فيُقدَّم ضمن إطار تحليلي لا أيديولوجي، على أنه قوة تعبئة سياسية استُخدمت خلال الصراع، لكنها لم ترتقِ في تلك المرحلة إلى مستوى الفاعل الحاسم في تقرير مصير النظام، بحكم احتفاظ السلطة المركزية باتساقها النسبي بعد الحرب.رابعًا؛ اليمن والسعودية – الجغرافيا بوصفها عامل توتر دائم:يولي الكتاب موقعًا خاصًا للعلاقة اليمنية–السعودية بوصفها أحد المفاتيح الأساسية لفهم الإشكال الإقليمي ودوره بحرب 1994 وما تلاها. فالملف الحدودي، والثروة النفطية، وموقف صنعاء من حرب الخليج الثانية، شكّلت معًا عناصر ضغط دائم على الاستقرار اليمني.ولا تُقدّم هذه العلاقة بوصفها شأنًا ثنائيًا فحسب، بل باعتبارها جزءًا من نظام توازن القوى في شبه الجزيرة العربية، حيث ينعكس أي اختلال في العلاقة بين الرياض وصنعاء مباشرة على أمن الجزيرة العربية والإقليم الأوسع.خامسًا؛ الاقتصاد باعتباره جبهة الصراع الأعمق:من أبرز نقاط الكتاب إشارته المبكرة بالبُعد الاقتصادي للصراع باعتباره محددًا حاسمًا لمآلات الصراع. فقد شخّص، منذ منتصف التسعينيات، اختلالات بنيوية ستتفاقم لاحقًا، مثل:• تضخم القطاع العام وضعف إنتاجيته،• تفشي الفساد،• الاعتماد الريعي على النفط،• الزيادة السكانية المضطردة،• وضعف التعليم ورأس المال البشري.ويخلص التحليل إلى نتيجة بالغة الدلالة مفادها أن فشل التنمية بعد الحرب قد يكون أشد خطرًا على وحدة الدولة من الحرب نفسها، لأن غياب العدالة الاقتصادية يعيد إنتاج الصراع في صور أكثر عنفًا وتعقيدًا.سادسًا؛ القيمة الاستشرافية للكتاب في ضوء الواقع الراهن:عند قراءة الكتاب اليوم، تبدو تحذيراته وكأنها توصيف دقيق لما شهده اليمن لاحقًا:• هشاشة الوحدة أدت لاحقاً إلى تفكك بنيوي.• الاقتصاد الريعي أصبح أحد محركات الانهيار.• فشل تحقيق المصالحة أدى إلى إنتاج الحرب بأشكال مختلفة.• اضطراب العلاقة مع الجوار فتح أبواب التدويل الواسع للصراع.وبهذا المعنى، لم يعد الكتاب مجرد دراسة تاريخية، بل غدا وثيقة تفسيرية لمسار الانهيار طويل الأمد الذي عرفته الدولة اليمنية.سابعًا؛ القيمة العلمية والمنهجية للعمل:تتجلى القيمة الأكاديمية للكتاب في اعتماده المقاربة متعددة المستويات، التي تجمع بين تحليل الداخل السياسي، والبنية الاجتماعية، والاقتصاد، والبيئة الإقليمية. كما يتميز بابتعاده عن التفسير الأيديولوجي الضيق، وتركيزه على اختلالات بنية الدولة أكثر من تركيزه على الأشخاص.ويقدّم المؤلف من خلال هذا العمل نموذجًا للبحث السياسي الذي يربط بين الجغرافيا السياسية والموروث الاجتماعي، وسوسيولوجيا السلطة، واقتصاد الدولة، في قراءة واحدة متماسكة.خاتمة:يمثل كتاب «حرب اليمن 1994: الأسباب والنتائج» دراسة تأسيسية لفهم الإخفاق التاريخي لمشروع الدولة الوطنية في اليمن بعد الوحدة. فهو لا يتوقف عند توصيف الحرب بوصفها حدثًا منتهيًا، بل يضعها في سياق أزمة أعمق تتعلق ببنية الحكم، ومفهوم الشراكة، وحدود الدولة، ووظيفة الاقتصاد. وتُبرز أفكار جمال السويدي أن فهم جذور الصراع وبُناه الاجتماعية والفكرية شرطٌ أساسي لأي حل مستدام في اليمن، بعيدًا عن المعالجات الأمنية المؤقتة. ومن أهم الدروس المستفادة أن غياب المشروع الوطني الجامع يفتح المجال أمام الصراعات الهوياتية والتدخلات الخارجية. كما يؤكد على أولوية بناء الدولة على أسس المواطنة المتساوية والمؤسسات القوية. ويشير ضمنيًا إلى أن التسويات السياسية لا تنجح دون مصالحة مجتمعية حقيقية. وعليه، فإن خارطة الحل في اليمن يجب أن تنطلق من معالجة الفكر، لا الاكتفاء بإدارة الصراع.ومن يقرأ هذا الكتاب اليوم، بعد مرور قرابة ثلاثين عاماً على صدوره، يدرك أن مأساة اليمن الراهنة ليست قطيعة مع الماضي، بل هي استمرار لمسار بدأ منذ لحظة الإخفاق في تحويل نصر 1994 العسكري إلى مشروع دولة وطنية جامعة. إنه كتاب يُقرأ اليوم لا لفهم الماضي فقط، بل لفهم لماذا بدا الحاضر بهذا القدر من التعقيد والانكسار.الكاتب هو : القاضي الدكتور باسل عبدالله محمد باوزير، أستاذ القانون الدستوري، تخرج من كلية الدراسات القانونية بجامعة آل البيت بالأردن وواصل دراسته حتى حصل على درجة الدكتوراه في القانون الدستوري، كما حصل على درجة الدبلوم العالي في الدراسات القضائية من المعهد القضائي الأردني. صدر له العديد من الكتب المطبوعة، والمقالات والدراسات العلمية المنشورة في الصحف والمجلات والدوريات.قراءة تحليلية في كتاب 'حرب اليمن 1994: الأسباب والنتائج' للمفكر الإماراتي جمال سند السويدي
د. باسل باوزير
قراءة تحليلية في كتاب 'حرب اليمن 1994: الأسباب والنتائج' للمفكر الإماراتي جمال سند السويدي
مدار الساعة ـ