بين جائحة عالمية عطّلت حركة الاقتصاد، وحرب غزة التي شغلت الإقليم وألقت بظلالها على الأسواق والاستثمارات، كان يمكن للأردن أن يدخل مرحلة ركود طويلة. لكن ما حدث كان العكس تمامًا؛ إذ تحوّلت هذه التحديات إلى دافع لبناء اقتصاد رقمي متقدّم، يقوده ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله الثاني برؤية تركّز على تمكين الشباب، وتطوير المهارات، والربط بين التعليم والتقنية والإبداع.
الأردن اليوم، رغم ضيق الموارد وتقلبات المنطقة، يدخل بثقة زمن الثورة الصناعية الرابعة والخامسة، عبر مسار إصلاحي وتقني يعيد تشكيل الاقتصاد ويؤسس لفرص جديدة تستند إلى رأس المال البشري كمنطلق رئيسي للتنمية.ثورة صناعية على الطريقة الأردنيةتعتمد الثورة الصناعية الرابعة على الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، وتحليل البيانات، والروبوتات، بينما تضيف الثورة الخامسة بُعدًا إنسانيًا يقوم على التعاون بين البشر والآلة، والاستدامة، والطاقة النظيفة، والصناعات الإبداعية.ولأن الأردن لا يملك موارد ضخمة، فقد تبنى هذه الثورة من بوابة المهارات البشرية، عبر تعليم تقني متطوّر، ومبادرات ابتكارية، وتطوير بيئة رقمية مرنة قادرة على الصمود في وجه أي أزمة.مبادرات ولي العهد: بناء منظومة رقمية وليست مشاريع منعزلةجامعة الحسين التقنية: إعادة تعريف التعليم المهني والتقنيتُعد جامعة الحسين التقنية أحد أهم المشاريع الريادية في المملكة، فهي لا تُخرّج حملة شهادات، بل تُخرّج محترفين قادرين على العمل في قطاعات الذكاء الاصطناعي، علم البيانات، الأمن السيبراني، الروبوتات، والميكاترونيكس.إنها باختصار “مدرسة المستقبل” التي تربط الطالب بسوق العمل منذ اليوم الأول.مختبرات التصنيع الرقمي ومصانع الأفكارتمنح هذه المختبرات الشباب فرصة تحويل أفكارهم إلى نماذج أولية قابلة للتطوير، باستخدام أدوات مثل الطباعة ثلاثية الأبعاد، والقصّ بالليزر، والأنظمة المبرمجة.إنها البيئة التي ينبثق منها جيل من الصناعيين الجدد الذين يصنعون التكنولوجيا بدل استيرادها، ويؤسسون لمشاريع ناشئة عالية القيمة.استراتيجية الأمن السيبراني: حماية التحوّل الرقميمع توسع التحول الرقمي، باتت حماية البيانات ضرورة وطنية.ولذلك جاء تأسيس المجلس الوطني للأمن السيبراني، وتطوير برامج تدريبية متخصصة، ليشكّلا ركيزة ضرورية تجعل من الأردن بيئة آمنة للشركات التقنية العالمية والإقليمية.مبادرة “ض”: التكنولوجيا تقابل الهويةتهدف هذه المبادرة إلى دمج اللغة العربية في التقنيات الحديثة، وتطوير محتوى رقمي عربي في مجالات الذكاء الاصطناعي والتعليم الإلكتروني والتطبيقات الذكية.بهذه الخطوة، لا يواكب الأردن العالم فقط، بل يدخل إليه بثقافته ولغته.مبادرة “مليون مبرمج أردني”: تأسيس جيل رقميتأتي هذه المبادرة كخطوة استراتيجية لتوسيع قاعدة المهارات الرقمية في المملكة، عبر تدريب الشباب على البرمجة، تطوير التطبيقات، والعمل الحر عالميًا.ورغم الظروف الصعبة، تمكّنت المبادرة من تمكين أكثر من مئة ألف شاب وشابة حتى عام 2023، ما يعكس توجّهًا واضحًا نحو بناء قطاع تكنولوجي قوي، قادر على المنافسة والانطلاق خارج الحدود.الإنجاز وسط الأزمات: كيف تقدّم الأردن رغم كورونا وحرب غزة؟ما يلفت الانتباه أن هذه المشاريع لم تتوقف خلال أصعب فترات الإقليم.ففي الوقت الذي تعطلت فيه قطاعات كثيرة حول العالم، واصل الأردن تطوير البنية الرقمية، وتعزيز الإنترنت، وتوسيع منصة سند والخدمات الحكومية الإلكترونية، وإطلاق منصات تعليمية وطنية مكّنت الطلاب من مواصلة التعلم عن بُعد.كما استمرت شركات عالمية كأمازون وأبل وسيسكو بالعمل من الأردن، ما يعكس ثقة بقدرات الشباب الأردني وببيئة العمل الرقمية التي يجري بناؤها.انعكاس الثورة الرقمية على اقتصاد المملكةهذا التوجه لا يمثل رفاهية تقنية، بل يحمل آثارًا اقتصادية مباشرة:أولًا – وظائف نوعية جديدة:قطاع التكنولوجيا قادر على خلق آلاف الوظائف في البرمجة، أمن المعلومات، التحليل، الخدمات السحابية، والمهن الإبداعية.ثانيًا – جذب الاستثمار الأجنبي:كلما كبرت مهارات الشباب، زادت رغبة الشركات العالمية بالاستثمار في الأردن ونقل جزء من عملياتها إليه.ثالثًا – تخفيض فاتورة الاستيراد:كل حل تقني محلي يعني استغناءً عن الاستيراد، وزيادة للقيمة المضافة داخل الاقتصاد.رابعًا – إطلاق صناعات جديدة:سهولة التصنيع الرقمي تفتح الباب أمام صناعات مبتكرة منخفضة الكلفة وعالية الإبداع، تضع الأردن على خارطة التكنولوجيا التصنيعية.كيف نقيس النجاح؟ مؤشرات عملية لقياس التقدملضمان تقدم مدروس يمكن تتبعه، لا بد من اعتماد مؤشرات واضحة، مثل:عدد الشركات الناشئة التقنية سنويًاعدد الوظائف الرقمية الجديدةصادرات التكنولوجيا وخدمات البرمجياتنسبة انتشار الألياف الضوئية والإنترنت عالي السرعةعدد المشاريع المنتجة عبر مختبرات التصنيعحجم التدريب في مجالات الذكاء الاصطناعي والروبوتاتنسبة الخدمات الحكومية المؤتمتة بالكاملبراءات الاختراع والمشاريع الصناعية المبتكرةهذه المؤشرات تمنح صانع القرار رؤية واقعية لقياس الإنجاز وتطويره.الأردن يتقدم رغم العواصف… والموارد البشرية هي الرصيد الأقوىمن التعليم التقني إلى الأمن الرقمي، ومن مبادرات البرمجة إلى التصنيع الرقمي، يثبت الأردن أنه قادر على بناء اقتصاد معرفي حقيقي، حتى في أصعب الظروف.إن رؤية الأمير الحسين في تمكين الشباب وربط الأردن بعالم التكنولوجيا ليست ردة فعل لحظية، بل مسار استراتيجي يهدف إلى تحويل المملكة إلى مركز إقليمي للتقنية والإبداع والصناعات المتقدمة.وباستمرار هذا النهج، يمكن للأردن أن ينتقل من دولة محدودة الموارد إلى دولة تصنع مستقبلها بعقول شبابها وإصرارهم.كيف يقود الأمير الحسين الأردن إلى الثورة الصناعية الرابعة والخامسة؟
مدار الساعة ـ
