أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات أحزاب مجتمع وظائف للأردنيين مقالات مقالات مختارة أسرار ومجالس تبليغات قضائية الموقف مناسبات جاهات واعراس مستثمرون شهادة جامعات دين بنوك وشركات خليجيات مغاربيات ثقافة رياضة اخبار خفيفة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

العتوم يكتب: إندورفينات السعادة تفرز في العطاء لا في المكتسبات


ا.د. عدنان العتوم

العتوم يكتب: إندورفينات السعادة تفرز في العطاء لا في المكتسبات

مدار الساعة ـ

في زمنٍ يُقاس فيه النجاح بما نملك من أموال او بيوت أو سيارات وغيره، ولكن يغيب عن كثيرين أن السعادة الحقيقية لا تُقاس بالمكتسبات المادية،. فالماديات، مهما كثرت، لا تملأ الفراغ الداخلي الذي يبحث الإنسان من خلاله عن معنى لحياته. أما حين يعطي الانسان ولو كان قليلا، فإنه يخرج من دائرة الذات الضيقة إلى فضاءٍ أوسع من الإنسانية والمشاركة والاجر العظيم عند الله. والعطاء ليس حكرًا على المال؛ فقد يكون كلمة طيبة، أو وقتٌ يُمنح لمن يحتاجه، أو خبرة تُنقل بمحبة، أو حتى ابتسامة صادقة تُعيد الأمل لقلوبٍ أنهكها التعب والقلق. العطاء موقفٌ من الحياة، رؤيةٌ ترى أن قيمة الإنسان لا تُقاس بما يمتلك، بل بما يُقدّم.

وتشير الدراسات الفسيولوجية أن الإندورفينات هي مواد كيميائية طبيعية يفرزها الدماغ، خاصة من الغدة النخامية وتحت المهاد، وتعمل كناقلات عصبية وهرمونات في الوقت نفسه. وظيفتها الأساسية هي تخفيف الألم وتحسين المزاج من خلال الارتباط بمستقبلات خاصة في الجهاز العصبي، مما يولد شعورًا بالراحة والرضا. ترتفع مستوياتها عند ممارسة الرياضة، والضحك، والعطاء، والتأمل، مما يفسر العلاقة الوثيقة بينها وبين الإحساس بالسعادة؛ فهي تُعدّ "المورفين الطبيعي" للجسم الذي يمنح الإنسان سعادة داخلية وهدوءًا نفسيًا دون أي تأثيرات جانبية.

وقد أثبتت دراسات علم النفس الإيجابي أن الأفراد الذين يمارسون العطاء سواء بالتطوع أو بمساعدة الآخرين أو حتى باللطف اليومي او الابتسامة في وجوه الناس، يشعرون بمستويات أعلى من الرضا النفسي والسعادة والقناعة. فالعطاء يُنشّط في الدماغ مناطق مسؤولة عن الشعور بالمكافأة والسرور، تمامًا كما يفعل النجاح الشخصي، لكنه يمتاز بأنه يترك أثرًا أطول وأعمق. بل إن علماء النفس لاحظوا أن العطاء يخلق توازنًا داخليًا بين "الأخذ" و"المنح"، فيعيد للإنسان إحساسه بأنه جزء من نسيجٍ إنساني متكامل، وأن حياته ذات قيمة لأنها تترك أثرًا طيبًا.

ومن الناحية الدينية، يرى الإسلام أن السعادة الحقيقية تنبع من العطاء لا من الأخذ، لأن العطاء يربط الإنسان بربه وبالناس من حوله، ويُنمّي في داخله مشاعر الرحمة والرضا، فتتحقق له سعادة روحية وسكينة قلبية لا تُقدَّر بثمن. وتوضح الآية الكريمة: "مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً" (البقرة: 245) أن العطاء في الإسلام ليس نقصانًا في المال، بل استثمار روحي يملأ النفس بالطمأنينة، لأن المؤمن يدرك أنه يُرضي الله ويسهم في نفع الآخرين. ويؤكد النبي ﷺ هذا المعنى في قوله: "خيرُ الناسِ أنفعُهم للناسِ"، وفي قوله الآخر: "اليدُ العليا خيرٌ من اليدِ السُّفلى"، ليدلنا على أن السعادة والفضل الحقيقيين يكمنان في العطاء لا في الأخذ.

إن أجمل ما في العطاء أنه يحرر الإنسان من عبودية الأنا، ويجعله أكثر قدرة على رؤية الآخرين بقلوبهم لا بمظاهرهم. تخيل نفسك انك اعطيت أسرة فقيرة بعض الدراهم، الفقير بالتاكيد سيسر كثيرا بذلك ويعتقد ان الله قد يسرك لسد حاجته ويشتري غداء أو عشاء أسرته لذلك اليوم. لكن تخيل نفسك تراتقب الفقير وهو يدخل الى اطفاله محمل بالطعام وراقبهم وهم ياكلون ويحمدون الله ويتوجهون لك بالدعاء. من الكاسب الاكبر انت ام الاسرة الفقيرة؟

وترتبط القناعة بالسعادة لان القناعة هي البذرة التي تنبت منها السعادة. فحين يرضى الإنسان بما قسمه الله له، لا يعني ذلك جمودًا أو تخلّيًا عن الطموح، بل صفاءً داخليًا يحرره من القلق والمقارنة. القنوع يعيش في دائرة الامتنان، ويرى في القليل بركة، وفي النعم الصغيرة أسبابًا كبيرة للرضا لقولة تعالى ﴿وَلَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾، إبراهيم: 7. فالسعادة لا تأتي من كثرة المال، بل من قلبٍ مطمئن يرى الجمال فيما لديه، لا فيما ينقصه. وكم من غني يملك الاموال ولا يستطيع ان يتمع بوجبة كاملة لاسباب صحية ويتمنى ان ياكل ما يأكله الفقير فقط (خبز وبصل).

حين نعطي، لا نخسر شيئًا، بل نربح أنفسنا. فالعطاء لا يُنقص، بل يُنمّي؛ ولا يُرهق، بل يُنعش؛ ولا يُفقر، بل يُغني بالمعنى والسكينة. فليكن عطاؤك عادةً لا مناسبة، وابتسامتك رسالة لا مجاملة، ويدك الممدودة بالخير طريقك إلى طمأنينةٍ لا تُشترى، لأن السعادة الحقيقية تُزهر حين نُعطي، لا حين نأخذ.

مدار الساعة ـ