لطالما كنتُ أظن أنَّ تحرير فلسطين هو مجردُ تحريرٍ لأرضها بالمعنى المادي. فمنذ صغري، كنتُ اعتقد أنه ما أن ينتهي نظامُ الاحتلال الصهيوني لفلسطين التاريخية، وذهبنا لقضاء الصيف في يافا العربية، فنحن هنا قد بلغنا مجدَنا وأرجعنا ما سُلِبَ من أجدادنا.
ولكن بعد التفكُّر العميق، وجدت ُنفسي أتساءل العديد من الأسئلة الجوهرية حول الموضوع. فإذا استطاعت كل الجيوش العربية، بكل عتادها العسكري، تحريرَ الأرض الفلسطينية، فهل سيتحرر الإنسان الفلسطيني؟ هل نقدر نحن كفلسطينيين أن نحكم أراضينا بعد التحرر، أم سننجرُّ إلى انقساماتٍ فصائلية على الحكم، وتؤدي بآخر المطاف إلى أن تصبح فلسطين ملعباً للصراعات الإقليمية والنزعات الدولية كما للأسف حصل بسوريا واليمن والسودان وليبيا؟
وإنْ تفاءلنا بالخير ونعِمت فلسطين بالسلام المؤقت، فهل سنكون قادرين على إدارة مواردنا واقتصادنا باستدامة، وبناء دولة ديمقراطية يعيش فيها كلُّ فلسطيني بحرية وكرامة، بعيداً عن التدخلات الخارجية بسياساتنا الداخلية؟
بعد الغوص بهذه التساؤلات، أظن أني بدأتُ بالوصول إلى الجواب الأقرب إلى الحقيقة، وهو أنَّ تحرير الأرض الفلسطينية حقاً يبدأ بتحرير الإنسان العربي، تحرُّره بالأخص من سطوة الإستعمار الأجنبي لكل مناحي الحياة الإقتصادية والسياسية والثقافية والتعليمية والإجتماعية. فالغرب يغزو مجتمعاتنا منذ عقودٍ بأفكارٍ دخيلة بعيدة كل البعد عن عاداتنا وتقاليدنا وأدياننا ونحن نقف مكتوفي الأيدي ننتظر أن تأتي قوة عربية تنزل من السماء لتحرير فلسطين.
الشعوب العربية تعي أنَّ القضية الفلسطينية تخص كلَّ شخصٍ عربي مهما كانت توجهاته لأنها تستنهض الهمم، وتُحيي مفهوم القومية العربية، ودحر الإمبريالية المعاصرة. فالشعوب المستعبَدة غير المتحررة لن تقدر أن تسهم في تحرير فلسطين، والتي يرتبط معها أيضاً مفهوم الحرية والكرامة. فالتحرر والحرية توأمان لا يمكن فصلهما أبداً.
فيكمن تحرير فلسطين بتحرير عقولنا من كل الأفكار المتطرفة والإقصائية والعنصرية والسُّمّية التي أُقحِمت على مجتمعاتنا واعتنقناها ظانين أننا بها نتحرر، لكنها بالفعل هي من كبلتنا وقيّدتنا. عالمُنا العربي لديه الفرصة اليوم للنهوض بعيداً عن القوى المهيمنة والتي كشفت حرب غزة كلَّ أكاذيبها، وازدواجيّة معاييرها، ومزقت ستار النظام الدولي الزائف والقوانين الدولية الهزيلة التي وُضِعت لتعزيز نفوذهم، والتي تُنفَّذ فقط حسب مصالحهم. فدعمهم لكيان الإحتلال هو أبهى صورة لحماية مصالحهم في المنطقة والعمل على تقسيم العرب وتجزئتهم، لأنهم يعلمون أنه ما إن اتّحد العرب فسيشكلون قوة عُظمى يخشون منها.
يا عرب، انهضوا، فهذه حرب على الوعي بالدرجة الأولى. فنحن من أقنعنا أنفسنا أن ما بيدنا حيلة فخسرنا بذلك جولاتٍ من المعارك. ولكن إن أردنا أن نكسب الحرب، فيجب التيقن أننا لن نتحرر بالسلاح إلا بعد أن نتعلم أنَّ الحرية والتحرير لا يتحققان إلا بالقلم والعلم والنضوج الفكري والوعي لشعوبنا العربية. لذلك تحرير فلسطين يبدأ بتحرر الإنسان العربي ويتكلل بتحرير أرضها.