أخبار الأردن اقتصاديات مغاربيات خليجيات دوليات جامعات وفيات برلمانيات وظائف للأردنيين أحزاب رياضة مقالات أسرار ومجالس مقالات مختارة تبليغات قضائية مستثمرون جاهات واعراس الموقف شهادة مناسبات مجتمع دين اخبار خفيفة ثقافة سياحة الأسرة طقس اليوم

نجمٌ من قلب دمشق النابض

مدار الساعة,مقالات مختارة
مدار الساعة ـ
حجم الخط

شيخ جليل ذو لحية بيضاء، ووجه منير كالبدر، يجلس خلف مكتبه في غرفة متوسطة الاتساع في المسجد الأموي بدمشق، على أقصى الجهة اليمنى من المحراب بجانب غرفة المؤذنين، يسمّع كتاب الله تعالى لحَفظتِه معظم اليوم. إنه شيخنا العلامة القارئ الحافظ الجامع للقراءات العشر، الفقيه الحنفي، المربّي الكبير عبد الرزاق الحلبي رحمه الله تعالى (1925-2012م).

إنه بحق زعيم مملكة (الصمت)، والصمت لغة العظماء، وقد لازمت الشيخ معظم اليوم خلال السنوات التي أمضيتها بدمشق، وكنت أستطيع أن أعدّ كلماته خلال اليوم، كلمات قليلة، مثل: أهلا وسهلا، مع السلامة، الله ييسر لك. يلتفت إلى أول الحاضرين لمجلسه ويقول له: اقرأ يا ابني، وعند إطالة القارئ يبادر الشيخ بقوله: اللي بعده. وإذا خرج الشيخ عن النسق السابق تكلم بآية أو حديث أو متن علمي أو بيت شعر أو حكمة.

تعرفت على الشيخ عام 1996م، بعد الثانوية العامة، وكان اللقاء الأول عجيبًا، فقد نصحني صديقي الشيخ محمد قيلش وهو من حلب، أن ألتزم في قراءة كتاب الله مع الشيخ عبد الرزاق الحلبي، وأخذني إلى مكتبه في المسجد، فنظر إليّ الشيخ من تحت نظاراته نظرة أخافتني وسأل: من أين أنت؟ قلت: من الأردن، فقال: كم تحفظ؟ قلت: أحفظ ثلاثة أجزاء، فقال بلهجته الشامية وبصوت مرتفع غاضب: (ما ني فاضي، مع السلامة) فقلت: لكن يا شيخ، فقال: (اطلع بره). وخرجت أجرّ أذيال الخيبة ولا أدري لِمَ لمْ أحمل في نفسي شيئا على الشيخ، وباغته في اليوم التالي بعد العصر، فقال: (ماذا تريد؟ ما قلت لك ما ني فاضي)، فقلت ببساطة (ابن الصّريح): يا شيخ أمس طردتني، وأنا ما عندي شي غيرك، كل يوم بدي آجي، وإن طلعتني من الباب، بدي أدخلك من الشباك) وصار الشيخ ينظر إليّ من تحت النظارات ويتأملني، وفاجأني بقول بلهجته: (عود اقرأ الفاتحة وأول البقرة) ففعلت، وعندما انتهيت قال: (بكرة بتكمل، اللي بعده) وهكذا دامت العلاقة بيننا ثلاث سنوات متصلة.

كنت أتوجه للمسجد قبل الفجر لأتمكن من أخذ فرصة للقراءة، والعجيب أنني كنت أجد من سبقني وما أكثرهم! وقبل الفجر يبدأ الشيخ بالاستماع للحاضرين واحدًا واحدًا. وفي هذه الأثناء يُقدَّم للشيخ فنجان من القهوة لازلت أحتفظ بذاكرتي بجمال رائحته، فيأخذ منه الشيخ (شفّة) أو اثنتين ثم يعطي الفنجان لمن هو على يمينه، ويتوزع الطلاب الحاضرون الفنجان، وما أُحيْلاه من فنجان!

أذكر أنني كنت عند الشيخ في 11/8/1999م، وكان يوم كسوف للشمس، ولم يحضُرإمام المسجد (الشيخ نزار الخطيب) رحمه الله لصلاة العصر، فأمرني الشيخ بقوله: (قم صلِّ بالناس) فأجبت مسرعًا: ما بعرف أصلي، فرفع صوته قائلا: (أنت طالب علم، قم) فقمت من هول صوت الشيخ وتوجهت إلى محراب جامع بني أمية الكبير، وعندما كبّرت للإحرام وقلت: الله أكبر، كرر المؤذن ورائي وبلّغ بقوله: الله أكبر، وكأنني لأول مرة أسمع هذا التبيلغ، وكاد قلبي يقفز من بين أضلعي، ولكنّ الله سلّم، وتمت الصلاة على خير، وصار يوما محفورا بذاكرتي، الأردني المسكين يؤمّ بهذا المسجد العظيم، ذو التاريخ والحضارة، الذي أمّ فيه كبار أهل العلم والفضل، وأصلي بمعية شيخنا العلامة عبد الرزاق الحلبي، إنه يوم لا يُنسى.

كان الشيخ شديد الاحترام لطلابه، ففي يوم أراد أن يخلع جواربه ليتوضأ، وكان مسنا ومريضا، فقفزت لأعاونه، فصار يضرب على يدي ويقول:( قم.. أنت طالب علم)، رحمك الله يا شيخ الشام.

الدستور

مدار الساعة ـ