في هذا الزمن المتقلب، لا تقاس قيمة الأوطان بحدودها، ولا تُعرف عظمتها بعدد قصورها أو اتساع أزقتها… بل تُوزن بأمانها، بهدوء ليلها، بطمأنينة المارين في طرقاتها. والوطن، في حقيقته، ليس إسفلتًا ولا علمًا يرتفع على سارية… بل فكرة تتلبّس الأرواح، تبني جغرافيتها في القلب قبل أن تسكن الأرض.
واليوم، ونحن نحتفل بيوم العلم، هذا الرمز الذي لا تحمله الريح ولا يمزقه العابرون، نكتشف كيف أن قطعة قماش قد تهزم رصاصة، وكيف أن ألوانًا بسيطة تختزن معنى البقاء والكرامة. وفي ذات اللحظة التي كان فيها الشعب يتغنى بعشقه لرايته، كانت أعينٌ لا تنام تقبض على حكاية خيانة… خلية سوداء أرادت أن تنثر رمادها في فضاء هذا الوطن النقي.
ليس الأمن صدى بندقية ولا صلابة سور، بل رجال يولدون من رحم الإيمان بهذا التراب. المخابرات العامة لم تكن مجرد جهاز، بل وعي جمعي يتسلل حيث لا يرى الناس، ويشم رائحة الخطر قبل أن يدنو، يشبه الأم التي تشعر بوجع وليدها قبل أن يبكي. ذلك الكشف الذي تحقق اليوم، لم يكن إعلان نصرٍ عادي، بل درسًا فلسفيًا في أن الطمأنينة لا يمنحها الكون مجانًا، بل تنتزعها العقول الساهرة والقلوب العاشقة.
وأقولها بيقينٍ يشبه يقين العاشق في معشوقته:
"حين يصبح أمن وطني أغنيتي اليومية، فلا بأس أن يتهمني الجاهلون بالعشق المفرط، فالوطن لا يستحق منّا إلا الجنون الجميل"
ولعل أجمل ما يمكن أن يهبه الإنسان لنفسه، أن يحب وطنه بطريقة لا يفهمها الآخرون. أن تكون مؤمنًا بأنك لا تحمل علمًا في يدك، بل تحت جلدك، في نبضك، في تفاصيل صوت أمك وهي تدعو لجنودٍ لا تعرفهم. أن ترى الأجهزة الأمنية كما ترى الحبيب الغيور… لا ينام إلا حين يطمئن، ولا يرحم من يتجرأ على جرح محبوبه. وهكذا الوطن… ليس سيادةً مكتوبةً على الورق، بل عشقًا مستترًا في عروق من عرف قيمته.
وفي النهاية أقول:
"الوطن ليس جغرافيا نرسمها على خرائط الكتب، بل هو امتداد لحواسنا… من لا يتنفس أمنه، ولا يغار على ترابه، ولا يخشى عليه من خيانة العابرين، لم يعرف بعد معنى أن تكون الأرض أنثى، والوطن معشوقًا"