في زمنٍ تتشظى فيه الأرواح وتتمزق فيه الهويات، يبقى العلم… تلك القطعة السماوية المتدلية من أكتاف السماء، ذاكرة الأمم وأثر الدماء الطاهرة. ليس قماشًا يُرفع، بل تاريخ يُكتب على جسد الريح، وحلم يلوّح في وجه الغياب.
العلم الأردني — حين يتمايل فوق الرؤوس، ليس إلا حوارًا صامتًا بين الإنسان وأرضه. يحمل في بياضه سلام القلب، وفي سواده صبر الأيام، وفي أخضرِه وعدًا بالخصب، وفي حمرته عهد الدم، إذ كتب الشهداء أسماءهم فوق خطوطه الخالدة. ذلك اللون الأحمر الذي قال فيه الملك عبدالله الثاني بن الحسين: "هو دم الأردني… لا يساوم ولا يخذل، ولا ينسى فلسطين التي في قلبه ورايته."
كنت أظنّ أن الرايات مجرد رموز، حتى رأيت الريح تهتف لعلمٍ ينحني له شموخ الجبال. قالت سيمون دي بوفوار يومًا: "لا يولد الإنسان حرًا، بل يصير كذلك." وها نحن نصبح أحرارًا تحت ظل هذا العلم، حين نمتلئ بمعناه لا بمظهره.
في لحظة تأمل، همس إليّ الحكيم سقراط: "اعرف نفسك." وعرفت أنني جزء من هذا الوطن، قطعة من بياضه، شعلة في سواده، سنبلة في خضاره، وقطرة دم في حمرته.
وهنا أقول:
"ليست الرايات ما يُرفع فوق الرماح، بل ما يُزرع في أرواح الرجال."
ولو تأملتَ جيدًا في حركة العلم حين تعانقه الرياح، لأدركت أن الأعلام لا ترفرف عبثًا… بل تعلّمنا كيف نصمد ونحن نتمايل، وكيف نظل شامخين رغم أن الريح تعبرنا. إن هذا الامتزاج بين سكون القماش واندفاع الهواء، ما هو إلا تشبيه صامت للإنسان الذي لا تعرف هويته إلا حين يعصف به الزمن. لذلك، يصبح يوم العلم في جوهره اختبارًا لمدى التحامنا بما نحمله من قيم، لا بما نعلقه فوق الساريات.
نحن أبناء هذه الألوان، لا نفرّق بين خيط وآخر، لأن الوطن لا يُفصّل حسب مقاس رغباتنا، بل حسب حجم إخلاصنا له. وهنا، تذكرت مقولة أوسكار وايلد: "لا قيمة للوفاء حين يكون سهلاً." فالراية لا تحتاج لمن يصفق لها، بل لمن يحملها حين تُسقطها الأيادي المرتعشة.
وأعترف، كلما نظرت إلى هذا العلم المتعالي على السارية، شعرت كأنني أنظر إلى مرآة تعكس ملامح قلبي… علم لا يتلون وفق الأهواء، ولا يُطوى في زمن الهزيمة. علم يُشبه أولئك الذين يسيرون عكس التيار لأنهم يعلمون أن الأصل ليس أن تنجو، بل أن تظل وفيًا حتى النهاية.