في كل مرحلة انتقال سياسي أو لحظة احتدام وطني، تخرج أصوات تحاول إعادة تعريف الدولة وفق مقاسات ضيقة، وكأن الهوية السياسية الأردنية نص قابل للمحو أو الحشو، أو مشروع تجريبي قابل للتفكيك وإعادة التركيب. ليست هذه المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة، التي يتجرأ فيها البعض على زعزعة الثوابت أو التشكيك في المسلمات التي قامت عليها الدولة الحديثة.
لكن ما يجهله هؤلاء — أو يتجاهلونه عمدًا — هو أن الأردن لم يكن يومًا ورقة بيضاء بيد الأدلجة، ولا ساحة عبور لطموحات عابرة. إن الدولة الأردنية لم تنشأ كصدفة جغرافية، بل كقيمة سياسية ومجتمعية متراكمة، متجذرة في شرعيتها التاريخية والدستورية، عصيّة على الاستلاب، ومحصّنة بإرادة قيادتها ووعي شعبها.
الوطن لا يُجزّأ. والوحدة الوطنية لا تُفاوض. والأردن ليس ساحة اختبار لمن يرى فيه مسرحًا لطموحاته المؤدلجة.
لقد اختارت الدولة الأردنية طريق الديمقراطية منذ عام 1992 بإرادة سياسية واضحة، لا بوصفها مكرمة، ولا لأنها خيار اضطراري، بل لأنها كانت تدرك – وما تزال – أن الديمقراطية، رغم ما يعتريها من تحديات، هي السبيل الوحيد لبناء التوازنات الداخلية وتحقيق الأمن الوطني الشامل. ومنذ ذلك العام، والدولة تسير على قدميها في طريق الإصلاح، بخطى محسوبة، لكن ثابتة.
هذا الوطن لنا جميعًا، لا ينفعه أن نلقي في أذنه مزاودات ولا مناقصات، بل يحتاج إلى كل جهد صادق يستهدف مواصلة البناء والحفاظ عليه وتوسيع مساحات المشاركة للجميع. وإذا كنا قد اخترنا الديمقراطية نهجًا ووسيلةً لبناء مستقبل أفضل، فإن هذا الخيار يتطلب منّا أن نترجمه إلى عمل، لا أن نكتفي برفعه شعارًا.
فكل قول يدعو إلى إبطاء المسار الديمقراطي، أو التراجع عنه بحجج ظرفية أو وقائع طارئة، هو قولٌ خطيرٌ، لأنه يعيدنا إلى نقطة التأزّم التي جاءت الديمقراطية لتجاوزها، أو يقودنا إلى لحظة غليان جديدة نحن في غنى عنها.
الديمقراطية هي مساحة لاختبار صلابة الدولة وعدالتها. هي الطريق الذي لا طريق سواه. وعلى من يخشونها، أو يحاولون استثمارها حينًا والالتفاف عليها حينًا آخر، أن يدركوا أن الديمقراطية لا تكتمل إلا بحمايتها واحترام شروطها، وتوفير فرص متكافئة للجميع عبرها.
إن من يفهم الدولة على حقيقتها، يدرك أن الديمقراطية ليست تهديدًا لأمنها، بل ضمانة له. فهي لا تضعف المؤسسات، بل تمنحها شرعية أكبر، ولا تفتت الوحدة الوطنية، بل ترسّخها، لأنها تعيد توزيع الثقة، لا السلطة فقط.
الدولة الأردنية هي الفكرة التي كبرت معنا، والتي علينا أن نكبر بها. ومن يظن أن بإمكانه إعادة صياغتها أو تقزيمها بحسب حاجته اللحظية، عليه أن يعود لقراءة التاريخ جيدًا، فالدولة التي اختارت طريق الديمقراطية، تعرف جيدًا كيف تحميه.