في خضم الحروب التجارية التي يقودها دونالد ترامب، لا يكاد يمر يوم دون أنْ يشعر العالم بتأثيرات قراراته الاقتصادية التي تزداد غرابة وغموضًا، فبينما يدّعي ترامب أنَّ أهدافه تتلخص في حماية الاقتصاد الأمريكي، يرى كثيرون أنَّ الحقيقة أعمق وأخطر من ذلك بكثير. ترامب، الذي يُجيد قراءة تحركات أسواق المال، لا يبدو كرئيس يسعى لرفاه شعبه، بل كمضارب مُحترف يفتح أبواب الربح السريع للنخبة المالية المُقرَّبين منه، على حساب الطبقة الوسطى والفقراء.
ولكن السؤال الأهم: ما الذي يدفع ترامب إلى إشعال هذهِ الحروب الاقتصادية؟ ولماذا تعود قراراته دومًا بالنفع على الأثرياء وحدهم؟ في هذا المقال، نغوص في التحليل لفهم طبيعة هذهِ اللعبة الاقتصادية الكبرى، ولماذا ينبغي على الأردن أنْ يكون في قمة الحذر واليقظة لمواجهة هذهِ التحديات، التي قد تهدد استقراره المالي والاقتصادي.
* ما وجه الاتفاق بين ترامب والمليارديرات؟
لا وجود لاتفاق رسمي مُعلن بين ترامب والمليارديرات، بل هو "اتفاق ضمني" يقوم على تشابك المصالح وتلاقي الأهداف. ترامب، النشأ في قلب عالم المال والأعمال، يعرف جيدًا كيف تُصنع الثروات في زمن الأزمات، ويُدرك أنَّ الفوضى الاقتصادية هي البيئة المثالية لمراكمة الأرباح.
الحروب التجارية التي يُطلقها ليستْ سعيًا لحماية الصناعة الأمريكية كما يُروّج، بل أداة لإغراق الأسواق، وخفض أسعار الأسهم؛ ليتاح للنخبة المالية المُقرَّبة منه اقتناص الفرص، ثم العودة لاحقًا برفع القيود، فتقفز الأسهم، وتُحصد الأرباح الطائلة.
* لماذا يفعل ترامب هذا؟ وما مصلحته؟
الجواب بسيط: ترامب ليسَ مجرد رئيس، بل رجل أعمال يتقن اللعب في ظل التوترات، يرى في الحرب الاقتصادية فرصة لإعادة ترتيب المعادلة لصالح الأثرياء، أولئك الذين يمثلون حلفاءه وشركاءه في النفوذ والثروة.
* مصلحته في ذلك متعددة الجوانب، ومنها:
شراء الولاء السياسي: حين يُمكّن المليارديرات من جني ثروات ضخمة، يضمن ولاءهم المالي والسياسي.
تعزيز إمبراطوريته الاقتصادية: بعد مغادرته الرئاسة، سيحتاج لدعم أولئك الأثرياء لتمويل مشروعاته الإعلامية والاستثمارية.
ضمان استمرار النفوذ: الحفاظ على علاقة وثيقة بالنخبة المالية، يضمن له دورًا سياسيًا غير رسمي دائم.
* دليل حيّ: "عملية نصب القرن"؟
أحدث مثال على هذا "التحالف الخفي" ظهر جليًّا في واحدة من أخطر ما وُصف بأنَّه "أكبر تلاعب بالأسواق المالية في تاريخ أمريكا". ففي 9 أبريل، فرض ترامب رسومًا جمركية على عشرات الدول، ما تسبب بانهيار الأسواق، وخسارة تُقارب 10 تريليونات دولار، وسط الذعر، باع المستثمرون الصغار أسهمهم بخسائر ضخمة. وفي ذروة الانهيار، نشر ترامب تغريدة قال فيها: "الآن وقت مناسب للشراء... DJT"، مشيرًا إلى شركته المدرجة في البورصة، والتي تحمل الحروف الأولى من اسمه.
وبعد أربع ساعات فقط، أعلن تأجيل فرض الرسوم الجمركية لـ90 يومًا، ما أدى إلى انتعاش مفاجئ في السوق، وقفزت الأسهم بقوة، لتربح شركة ترامب وحدها أكثر من 22% في يوم واحد، وتُضيف 415 مليون دولار إلى ثروته الشخصية.
تقارير إعلامية كشفت أنَّ تداولات ضخمة تمّت قبل إعلان القرار، ما يُشير إلى احتمال تسريب معلومات داخلية. وفق Politico وواشنطن بوست، ما حدث لم يكن صدفة، بل نسخة طبق الأصل من استراتيجية Pump and Dump: تُخفض الأسعار عمدًا، ثم تُضخ شائعات إيجابية، فيرتفع السوق فجأة، ويحقق المتلاعبون أرباحًا خيالية.
* سندات الخزينة الأمريكية... سلاح الصين الصامت؟
في لعبة النفوذ الاقتصادي العالمي، لا تقتصر الحروب على الرسوم الجمركية أو السياسات الصناعية، بل تمتد إلى أدوات أشد خطورة، منها سندات الخزينة الأمريكية.
تمتلك الصين أكثر من 800 مليار دولار من هذهِ السندات، ما يجعلها ثاني أكبر دائن للولايات المتحدة. هذا الرقم يمنح بكين قدرة هائلة على التأثير في الأسواق الأمريكية، فمجرد تهديدها ببيع هذه السندات قد يرفع أسعار الفائدة الأمريكية، ويزعزع استقرار الدولار؛ لكن الصين لا تلعب بهذه الورقة علنًا، بل بدأت تُنفِّذ خطة أكثر هدوءًا ودهاءً: تقليص الاعتماد على الدولار داخل أراضيها، فقد أعلن مسؤول اقتصادي صيني رفيع أنَّ بكين ستُقلل من حجم الدولار المتداول داخل الاقتصاد الصيني، في خطوة تهدف إلى تعزيز استخدام اليوان في التجارة، وتقليل انكشاف الاقتصاد الصيني أمام تقلبات الدولار الأمريكي، هذه الاستراتيجية لا تعني فقط كبح تأثير ترامب على الأسواق العالمية، بل تمهّد أيضًا لخلق نظام مالي عالمي أكثر توازنًا، لا تهيمن عليه واشنطن وحدها، فكل دولار يخرج من السوق الصيني هو خطوة نحو بناء استقلال نقدي وسياسي أكبر.
* الأردن على مفترق التحول: فرصة للنهضة الاقتصادية
لم يعد السؤال كيف ينجو الأردن من العواصف الاقتصادية العالمية، بل كيف يتحول إلى لاعب مؤثر فيها. نعم، نحن بلد صغير جغرافيًّا؛ لكن في قلب كل أزمة عالميَّة هناك فرصة مخفية تنتظر من يراها بنظرة ثاقبة.
فلنُفكر خارج المألوف:
التحول إلى مركز إقليمي للدفع الرقمي والتكنولوجيا المالية: في ظل تراجع الثقة بالدولار، يمكن للأردن أنْ يقود مبادرات عملات رقمية إقليمية، بشراكات ذكية مع شركات عالمية وبنوك مركزية مجاورة.
الاستثمار في "الطاقة الرمادية": وهي مشاريع مبتكرة تجمع بين الطاقة الشمسية وتحلية المياه، وتُحوّل الصحراء الأردنية إلى أصول اقتصادية حيّة تخدم المنطقة بأكملها.
احتضان الابتكار في الذكاء الاصطناعي والاقتصاد الأخضر: تأسيس "وادي ذكاء" أردني يستقطب المواهب العربية والعالمية في مجالات المستقبل، بدعم حكومي وتشريعي مرن.
فتح مسارات لوجستية بديلة عبر البحر الأحمر والسكك الحديدية الإقليمية: الأردن يمكن أن يكون حلقة وصل ذكية بين آسيا وأفريقيا وأوروبا، خاصة إذا استثمر في موانئ العقبة وربطها بممرات تجارية حديثة.
دبلوماسية اقتصادية استباقية: عبر قراءة التحولات العالمية وتوقيع اتفاقيات استراتيجية مبكرة في قطاعات مثل المعادن النادرة، الأمن الغذائي، وسلاسل التوريد.
هذهِ ليست مُجرد أحلام، بل احتمالات واقعية تنتظر من يُحسن التوقيت والقرار. الأردن لا يحتاج إلى أن يُقلّد نماذج الآخرين، بل إلى أن يصنع بصمته الخاصة، ويُثبت أنَّ صغر الحجم لا يعني ضعف التأثير... بل أحيانًا يعني سرعة الحركة، وذكاء التموضع، ومرونة البقاء.