مدار الساعة - السؤال
ما حكم أني قلت لشخص: أمانة الله لا تفعل كذا، وفعله دون أن يقصد؟
الجواب: الحمد لله.
أولا:
الحلف إنما يكون باسم من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ) رواه البخاري (2679).
وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ) رواه الترمذي (1535)، وأبو داود (3251)، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي".
قال ابن قدامة رحمه الله: " ولا يجوز الحلف بغير الله تعالى، وصفاته، نحو أن يحلف بأبيه، أو الكعبة " انتهى من "المغني" (9/488).
ثانيا:
جاء النهي عن الحلف بالأمانة، فيما روى أبو داود (3253) عن بُرَيْدَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ حَلَفَ بِالْأَمَانَةِ فَلَيْسَ مِنَّا) وصححه الألباني في "صحيح أبي داود".
ثالثا:
الحلف بأمانة الله: يمين صحيحة في مذهب الحنفية والحنابلة.
قال ابن قدامة رحمه االله: "مسألة؛ قال: (أو بأمانة الله) قال القاضي: لا يختلف المذهب في أن الحلف بأمانة الله يمين مكفرة، وبهذا قال أبو حنيفة.
وقال الشافعي: لا تنعقد اليمين بها، إلا أن ينوي الحلف بصفة الله تعالى؛ لأن الأمانة تطلق على الفرائض والودائع والحقوق، قال الله تعالى: إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان [الأحزاب: 72] . وقال تعالى: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها [النساء: 58] . يعني الودائع والحقوق. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك.
وإذا كان اللفظ محتملا، لم يصرف إلى أحد محتملاته إلا بنيته، أو دليل صارف إليه.
ولنا: أن أمانة الله صفة له، بدليل وجوب الكفارة على من حلف بها إذا نوى، ويجب حملها على ذلك عند الإطلاق، لوجوه:
أحدها: أن حملها على غير ذلك صرف ليمين المسلم إلى المعصية، أو المكروه؛ لكونه قسما بمخلوق، والظاهر من حال المسلم خلافه.
والثاني: أن القسم في العادة يكون بالمعظم المحترم دون غيره، وصفة الله تعالى أعظم حرمة وقدرا.
والثالث: أن ما ذكروه من الفرائض والودائع، لم يعهد القسم بها، ولا يستحسن ذلك لو صرح به، فكذلك لا يقسم بما هو عبارة عنه.
الرابع: أن أمانة الله المضافة إليه، هي صفته، وغيرها يذكر غير مضاف إليه، كما ذكر في الآيات والخبر.
الخامس: أن اللفظ عام في كل أمانة الله؛ لأن اسم الجنس إذا أضيف إلى معرفة، أفاد الاستغراق، فيدخل فيه أمانة الله التي هي صفته، فتنعقد اليمين بها موجبة للكفارة، كما لو نواها" انتهى من "المغني" (9/ 512).
رابعا:
من حلف على شخص ألا يفعل كذا، وكان ممن يمتنع بيمينه، كزوجته أو ولده أو قريبه، ففعله ناسيا أو غير قاصد: لم يحنث الحالف، واليمين باقية.
وإن كان لا يمتنع بيمينه كالأجنبي، وفعل المحلوف عليه ناسيا، حنث الفاعل.
قال الحجاوي في "الإقناع" (4/46): " وإن حلف لا يفعل شيئا، ففعله ناسيا أو جاهلا: حنث في طلاق وعتاق، لا في يمين مكفرة.
وعنه: لا يحنث في الجميع، بل يمينه باقية. واختاره الشيخ وغيره.
وإن فعله مكرها أو مجنونا أو مغمى عليه أو نائما: لم يحنث.
ومن يمتنع بيمينه، ويقصد منعه، كزوجته وولده وغلامه وقرابته: إذا حلف عليه، كهو؛ في الجهل والنسيان والإكراه وكونه يمينا.
وإن حلف على من لا يمتنع، كالسلطان والأجنبي والحاج، استوى العمد والسهو والإكراه وغيره" انتهى.
قال في "كشاف القناع" (5/ 316) في تعليل عدم الحنث مع النسيان في حال من يمتنع بيمينه: " لحصول المقصود من اليمين به، وهو المنع من ذلك الشيء" انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "الشرح الممتع" (15/202): "فإذا حلف على غيره ألا يفعل شيئاً بيمين، أو طلاق، أو عتق أو نذر، فلا يخلو ذلك الغير من حالين:
الأولى: أن يكون المحلوف عليه ممن جرت العادة أن يمتنع بيمينه، أي إذا حلف عليه بَرَّ بيمينه؛ لقرابة، أو زوجية، أو صداقة.
الثانية: أن يكون هذا الغير ممن لا يمتنع بيمينه، ولا يهتم بها وسيأتي.
فإذا كان هذا الغير ممن يمتنع بيمينه، ويبر بها ولا يخالفه، بسبب قرابة أو زوجية أو صداقة، كأن حلف على زوجته ألا تفعل شيئاً، ففعلته ناسيةً، أو جاهلةً، أو حلف على ولده، ابن أو بنت، ألا يفعل شيئاً، ففعله ناسياً أو جاهلاً، فهذا الغير: حكمه حكم نفس الحالف، يعني كأنه نفسه، فإذا فعله ناسياً أو جاهلاً في اليمين بالله: لم يحنث...
قوله: وعلى من لا يمتنع بيمينه، من سلطان وغيره، ففعله حنِثَ مُطلقاً ...
مثال ذلك: رأى إنسان في السوق واحداً يريد أن يحمل على رأسه حزمة علف، فقال: والله لا تحملها، وكل واحد منهما لا يعرف الآخر، ثم إن الرجل المحلوف عليه نسي فحملها، فيحنث الحالف؛ لأن الأصل أن هذا الحالف ليس له إلزام هذا المحلوف عليه، فتكون اليمين بمنزلة الشرط المحض، فمتى وجد الشرط وجد المشروط؛ لأن حقيقة الأمر أن اليمين تشبه الشرط، فإذا قال له: والله لا تحمله، وهو ممن لا يمتنع بيمينه ولا يهتم بها فحمله ناسياً، قلنا للحالف: عليك الحنث والكفارة؛ لأنه ليس لك حق الإلزام، فصار يمينك بمنزلة الشرط المحض، فإذا وجد الشرط وهو حمله هذا العلف وجد المشروط وهو الكفارة.
وظاهر كلام المؤلف أنه يحنث مطلقاً، سواء قصد الإلزام أو قصد الإكرام؛ لأنه أحياناً يقصد إكرامه، فيقول: والله ما تحمله أنا أحمله، فإذا حمله المحلوف عليه فإنه يحنث على المذهب، وإن كان قصدُه الإكرام.
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية: أنه إذا قصد الإكرام، فإنه لا يحنث بالمخالفة...
وإن حلف على شخص لم تجر العادة أن يمتنع بيمينه، لكونه لا سلطة عليه، فإنه إذا فُعِل المحلوفُ عليه حنث الحالف، لأن من لا يمتنع باليمين لا يصح توجيه المنع إليه، وأصل اليمين قد بنيت على المنع والحث، أو التصديق أو التكذيب" انتهى.
وعليه، فإذا كان هذا الشخص ممن يمتنع بيمينك، لكونه قريبا أو صديقا، وفعل المحلوف عليه غير قاصد، لم يلزمك شيء، واليمين باقية، فلو عاد، وفعل قاصدا، حنثت، ولزمتك الكفارة.
والله أعلم.