مدار الساعة -السؤال
هل يتكلم الله تعالى مع الملائكة؟ وهل يأمرهم مباشرةً بفعل أشياء معينة، أم إنهم يُوحى إليهم؟ الحمد لله.
أولاً:
الأمران جائزان ممكنان، فربنا تبارك وتعالى يتكلَّم بكلامٍ له صوتٌ يسمَعُه ويفهمُه مَن يشاء اللهُ تعالى أن يكلِّمَه من عباده المخلوقين مباشرة بدون واسطة، وكذلك يوحِي ربُّنا تبارك وتعالى لمن يشاء من عباده المخلوقين فيلهمه ما شاء تعالى أن يلهمه، ولا فرق في ذلك الإمكان بين الملائكة وغيرهم.
وقد بيَّنَّا أن الله تعالى إذا تكلم بمشيئته: فكلامُه تعالى يكون بحرفٍ وصوتٍ، ويكون مسموعًا، وذكرنا دلالةَ القرآن والحديث واتفاقَ أئمة السنة على ذلك في الإجابتين.
وأما الملائكة خاصةً؛ فقد دلَّت نصوص الكتاب والسنة على وقوع الأمرين، فمما ورد:
1- أن الله تعالى يكلم الملائكة مباشرة فيسمعون صوته تعالى، ويأمرهم بما شاء سبحانه:
مثل قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ.
ففي هذه الآيات أخبرنا الله تعالى أنه خاطبَ الملائكة بكلامه تعالى المباشر، فسمعت الملائكة كلامه تعالى، ثم أذِن الله لهم أن يتكلموا أيضًا فتكلموا، ثم تكلَّم الله تعالى مرةً أخرى بكلام مباشر سمعته الملائكة وأجابوا سؤال ربهم لهم.
ومما جاء في الصحيحين من كلام الله تعالى المباشر لجبريل:
ما رواه مسلم في صحيحه (2637) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله إذا أحبَّ عبدًا دعا جبريلَ فقال: إني أحبُّ فلانًا فأحبَّه، قال: فيحبُّه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدًا دعا جبريلَ فيقول: إني أبغض فلانًا فأبغضه، قال فيبغضه جبريلُ، ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض)، انتهى.
ورواه البخاري (7485) أيضًا، بلفظ مختصر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تبارك وتعالى إذا أحبَّ عبدًا نادى جبريلَ: إن الله قد أحبَّ فلانًا فأحبَّه، فيحبُّه جبريل، ثم ينادي جبريلُ في السماء: إن الله قد أحبَّ فلانًا فأحبُّوه، فيحبه أهل السماء، ويوضع له القَبول في أهل الأرض).
ففي الحديث أن الله تعالى ينادي جبريل ويكلم جبريل ويقول له كلاما مسموعًا، فيسمعه جبريل، ويمتثل أمر الله تعالى، ثم يبلِّغ غيره من الملائكة بأمر الله تعالى، فجبريل سمع كلام الله، والملائكة سمعوا الكلام من جبريل لما بلَّغَهم.
وفي صحيح البخاري (4800)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، يَقُولُ: " إِنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِذَا قَضَى اللهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ، ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ، كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا لِلَّذِي قَالَ: الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ).
وفي سنن أبي دواد (4738) وغيره، عن عبدِ الله بن مسعود، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا تَكَلَّمَ الله بالوحي، سَمعَ أهلُ السماء للسّماء صَلْصَلةَ كجَرِّ السِّلَسلَة على الصَّفا، فيُصعَقون، فلا يَزالونَ كذلك حتى يأتيهُم جبريلُ عليه السلام، حتى إذا جاءَهم جبريلُ فزِّعَ عن قلوبهم، قال: فيقولون: يا جبريلُ، ماذا قال ربُّكَ؟ فيقول: الحقَّ، فيقولون: الحقَّ، الحقَّ ).
قال الإمام أبو عبد الله البخاري، رحمه الله: "وفي هذا دليل أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق، لأن صوت الله جل ذكره يسمع من بعد كما يسمع من قرب، وأن الملائكة يَصْعقون من صوته، فإذا تنادى الملائكةُ، لم يَصعقوا.
وقال عز وجل: فلا تجعلوا لله أندادا [البقرة: 22]؛ فليس لصفة الله ند، ولا مثل، ولا يوجد شيء من صفاته في المخلوقين". انتهى، من "خلق أفعال العباد" (98).
2- وقد يوحي الله تعالى إليهم فيلهمُهم. قال الله تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ.
وهذا الوحي: يحتمل الأمرين: أن يكون بكلام مسموع، أو يكون بإلقاء في روع الملائكة، فيهمون عن رب العزة ما أراد منه. قال العلامة الشنقيطي، رحمه الله: "يمكن أن يكون وحي إلهام، وأن يكون وحي إعلام، كل ذلك جائز للملائكة (صلوات الله وسلامه عليهم).. انتهى، من "العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير" (4/ 548).
واقتصر بعض أهل العلم على النوع الثاني هنا، وصرح بأن الوحي هنا من "الوحي المفهوم"، وليس قولًا مسموعًا كالذي سبق من سورة البقرة. قال الإمام أبو عبد الله الحليمي، رحمه الله: "وهذا هو الوحي الذي يخص القلب، دون السمع. وفي كتاب الله عز وجل: نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين. وقال الله عز وجل: إذ يوحي ربك إلى الملائكة إني معكم فثبتوا الذين آمنوا". انتهى، من "المنهاج في شعب الإيمان" (1/240).
وقال الواحدي، رحمه الله: "ومعنى (يوحي ربك) أي: يلقي إليهم من وجه يخفى، هذا حقيقة معنى الإيحاء. انتهى، من "التفسير البسيط" (10/ 52).
ثانيًا:
من المعلوم أن القرآن، وهو كلام الله تعالى، قد سمعه جبريل من الله تعالى مباشرة، ثم بلَّغه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: "قال الله عز وجل في كتابه : وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ، فجبريل سمعه من الله، وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم من جبريل، وسمعه أصحاب النبي من النبي"، انتهى، ورواه الخلال في "السنة" (1779، 1858).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في "مجموع الفتاوي" (5/ 128): "ومذهب سلف الأمة وأئمتها وخلفها: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع القرآن من جبريل، وجبريل سمعه من الله عز وجل"، انتهى.
والله أعلم.