أخبار الأردن اقتصاديات خليجيات دوليات مغاربيات برلمانيات جامعات وفيات مناسبات مجتمع رياضة وظائف للأردنيين أحزاب مقالات أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات مختارة مستثمرون جاهات واعراس الموقف شهادة دين اخبار خفيفة ثقافة سياحة الأسرة طقس اليوم

الضمور يكتب: وقف ثريد وهاشم بن عبد مناف: جذور تاريخية عميقة وإرث إنساني خالد


د. محمد خير فيصل الضمور

الضمور يكتب: وقف ثريد وهاشم بن عبد مناف: جذور تاريخية عميقة وإرث إنساني خالد

مدار الساعة ـ
في خضم التحولات السياسية والاجتماعية التي تشهدها المنطقة العربية، تبرز زيارة الملك الأردني لوقف ثريد كحدث يحمل في طياته أبعادًا إنسانية وتاريخية عميقة. هذه الزيارة ليست مجرد مناسبة خيرية عابرة، بل هي إحياء لإرث تاريخي ضارب في الجذور، يرتبط بشخصية هاشم بن عبد مناف، جدّ الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، الذي خلّد التاريخ اسمه بفضل أعماله الإغاثية خلال مجاعة قاسية ضربت مكة وأهلها.
يهدف هذا المقال إلى تقديم قراءة تحليلية شاملة لوقف ثريد، بدءًا من جذوره التاريخية الممتدة إلى حقبة ما قبل الإسلام، مرورًا بدلالاته الثقافية والاجتماعية، وصولًا إلى دوره المعاصر في الأردن تحت القيادة الهاشمية. كما يتناول المقال أهمية هذا الوقف في سياق السياسة الإغاثية الهاشمية، ويطرح قراءة نقدية لكيفية تناول الإعلام لمثل هذه الأحداث ذات البعد التراثي والإنساني العميق.
الجذور التاريخية لوقف ثريد
المجاعة الكبرى في الحجاز
في العام 480 للميلاد (145 قبل الهجرة)، ضربت مجاعة قاسية منطقة الحجاز، مما أدى إلى تدهور أوضاع أهل مكة والقبائل المجاورة. وفقًا للمصادر التاريخية، كانت هذه المجاعة من أشد المجاعات التي مرت بها المنطقة، حيث شحّت الموارد الغذائية إلى حد كارثي، وانعدم الأمن الغذائي بشكل غير مسبوق. تسببت هذه الظروف القاسية في معاناة واسعة، وكان من الضروري تدخل قيادات المجتمع لإيجاد حلول تنقذ السكان من خطر الموت جوعًا.
هاشم بن عبد مناف: زعيم بمهمة إنسانية
في هذه اللحظة الفارقة، برز عمرو بن عبد مناف، الذي أصبح لاحقًا يُعرف بهاشم بن عبد مناف، كرجل يحمل حسًّا قياديًا وإنسانيًا فريدًا. أدرك هاشم أن الحل لا يكمن في انتظار انفراج الأزمة، بل في اتخاذ خطوات استباقية لإنقاذ قومه.
توجه هاشم إلى غزة، التي كانت آنذاك مركزًا تجاريًا مهمًا، وتمكن من شراء كميات كبيرة من القمح والمواد الغذائية الأخرى. عاد إلى مكة بقوافل محملة بالمؤن، وبدأ في تنظيم عملية توزيع الطعام لضمان وصوله إلى أكبر عدد ممكن من المحتاجين.
ابتكار الثريد
لم يكن دور هاشم مقتصرًا على جلب المؤن فقط، بل عمد إلى تقديم حل عملي لضمان استفادة الناس من الطعام المتوفر. قام بهشم الخبز في المرق واللحم، مما جعله أكثر قابلية للتناول وأطول عمرًا في التخزين، وهو ما عُرف لاحقًا بـ “الثريد”.
أصبح هذا الطبق رمزًا للإغاثة الاجتماعية، واكتسب هاشم لقبه “هاشم” بسبب هذه المبادرة. لم يكن اختراع الثريد مجرد ابتكار غذائي، بل كان فعلًا مؤسِّسًا لقيم التضامن الاجتماعي في مكة، ورسّخ مكانة هاشم كقائد ليس فقط في السياسة والاقتصاد، بل في العمل الإنساني أيضًا.
غزة هاشم: شاهد على الإرث
منذ ذلك الحين، حملت مدينة غزة اسم “غزة هاشم”، تخليدًا للرحلة التي قام بها هاشم بن عبد مناف لإنقاذ أهل قريش. هذه التسمية ليست مجرد دلالة جغرافية، بل تحمل رمزية تاريخية عميقة تعكس العلاقة بين القيادة والمجتمع، وتعزز من مفهوم المسؤولية الاجتماعية التي كانت تمارسها قريش حتى قبل الإسلام.
الثريد في الثقافة الإسلامية
في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم
ظل الثريد يحتل مكانة مميزة حتى بعد قرون من حادثة إغاثة قريش. فقد كان أحب الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ ورد عنه أنه قال: “فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام” (رواه البخاري ومسلم). يعكس هذا الحديث مكانة الثريد كوجبة تحمل دلالات اجتماعية وثقافية عميقة، تربط بين الماضي الإغاثي لهاشم بن عبد مناف وما أصبح عليه المجتمع الإسلامي لاحقًا من قيم التكافل والتضامن.
دوره في تعزيز مكانة قريش
كان لإغاثة هاشم أثر سياسي غير مباشر، إذ عززت مكانة قريش كقبيلة لها نفوذ اقتصادي وسياسي في المنطقة. وقد كان لهذه المكانة دور كبير في تطوير شبكة تجارية قوية تمثلت في رحلتي الشتاء والصيف، اللتين ذُكرتا في القرآن الكريم:
“لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ” (سورة قريش: 1-2).
كانت هذه الرحلات حجر الأساس لازدهار مكة كمركز تجاري، وهو ازدهار مهد لاحقًا لاستقبال الرسالة الإسلامية في بيئة اقتصادية مستقرة.
وقف ثريد: الإحياء المعاصر للإرث
الدور الإغاثي الهاشمي في الأردن
اليوم، يعكس وقف ثريد في الأردن استمرارية هذا الإرث الإنساني، حيث يشكل نموذجًا للعمل الخيري المستدام. لم يعد الأمر مجرد توزيع للوجبات، بل أصبح برنامجًا إغاثيًا منظّمًا يقوم على جهود آلاف المتطوعين الذين يجسدون قيم التكافل الاجتماعي.
الأبعاد الاجتماعية والسياسية للوقف
لا يقتصر وقف ثريد على تقديم الطعام فقط، بل يعزز أيضًا قيم التلاحم المجتمعي والتضامن الوطني، وهو ما يجعله ركيزة في السياسة الاجتماعية للهاشميين. كما يرمز هذا الوقف إلى استمرار المسؤولية التاريخية للعائلة الهاشمية في دعم الفئات المحتاجة، مستندةً إلى إرث طويل من العمل الإنساني الذي بدأ بهاشم بن عبد مناف.
قراءة نقدية للرواية الإعلامية
أهمية البحث في جينالوجيا الأحداث
عند تناول حدث مثل زيارة الملك الأردني لوقف ثريد، من الضروري أن تتجاوز التغطية الإعلامية السرد السطحي، وأن تسلط الضوء على جذور هذا الوقف وأبعاده التاريخية والثقافية. فهم السياق الأوسع يمنح الحدث قيمة مضاعفة، ويكشف عن امتداداته في التاريخ الإسلامي والعربي.
الإعلام بين التبسيط والتعميق
تعاني التغطية الإعلامية أحيانًا من الاختزال المفرط للأحداث ذات الطابع التراثي، مما يؤدي إلى فقدان جزء كبير من المعنى العميق الذي تحمله هذه الممارسات. من هنا، يصبح الدور الإعلامي في البحث والتوثيق أكثر أهمية من مجرد نقل الأخبار السريعة.
الإعلام كحامل للإرث الثقافي
يمكن لوسائل الإعلام أن تلعب دورًا رئيسيًا في توثيق وإحياء مثل هذه الوقائع، من خلال إنتاج محتوى تعليمي وتثقيفي يساعد في تعزيز الوعي التاريخي، وتقديم قراءة متعمقة تعيد ربط الحاضر بالماضي.
خاتمة
وقف ثريد ليس مجرد مشروع إغاثي معاصر، بل هو امتداد لإرث تاريخي يمتد إلى قرون مضت، حين جسد هاشم بن عبد مناف قيم العطاء والمسؤولية الاجتماعية. إن إحياء هذا الإرث اليوم في الأردن يعكس استمرارية النهج الهاشمي في دعم المحتاجين، ويعيد إلى الأذهان الدور المحوري الذي لعبته قريش تاريخيًا في تأسيس قيم التكافل.
إن التعمق في فهم مثل هذه الظواهر، بعيدًا عن السرديات الإعلامية السطحية، يمنحنا قدرة أكبر على تقدير الدلالات التاريخية والسياسية والاجتماعية التي تحملها، ويعيد تشكيل وعينا بأهمية الإرث الثقافي في بناء المجتمعات.
مصادر
1. ابن هشام، السيرة النبوية.
2. الطبري، تاريخ الرسل والملوك.
3. ابن الأثير، الكامل في التاريخ.
4. القرآن الكريم، سورة قريش.
5. مصادر إعلامية موثوقة حول زيارة الملك الأردني لوقف ثريد.
6. دراسات أكاديمية حول التاريخ الاجتماعي والسياسي لقريش.
7. وثائق تاريخية حول المجاعات في الحجاز.
مدار الساعة ـ