في صباح الأول من آذار عام 1956، وقف الملك الشاب الحسين بن طلال، مُمسكًا بزمام قراره، عازمًا على كتابة فصل جديد في تاريخ الأردن، كان يدرك أن الاستقلال لا يكتمل إلا بسيادة الإرادة الوطنية، وأن الجيش العربي الأردني، الذي لطالما حمل راية البطولة، لا بد أن يكون بقيادته أردنيًا خالصًا، نابضًا بروح الانتماء لهذا الوطن.
كان ذلك اليوم فارقًا، حين أصدر جلالته قراره التاريخي بتعريب قيادة الجيش، مُنهيًا بذلك عقودًا من الهيمنة الأجنبية، وقاطعًا آخر خيوط الوصاية العسكرية التي كانت تُحاك خلف ستائر الاستعمار.
لم يكن القرار مجرد أمرٍ إداري، ولم يكن تغييرًا عابرًا في الهيكل العسكري، بل كان ثورة في روح الدولة، ولحظة تجلت فيها الإرادة الأردنية بأبهى صورها، فمنذ تأسيس إمارة شرق الأردن، كان الجيش العربي يحمل عبق الفروسية، لكنه ظل تحت قيادة بريطانية تمثلت في الجنرال غلوب باشا، الذي أمضى سنوات طويلة في قيادة الجيش، حتى بات قراره مرهونًا بسياسات الخارج، ومع تصاعد الوعي الوطني واحتدام الأزمات الإقليمية، خاصة بعد نكبة فلسطين عام 1948، كان لا بد من خطوة جريئة تعيد للجيش هويته، وللأردنيين ثقتهم في مؤسستهم العسكرية.
لم يتردد الحسين، ولم يخشَ العواقب، أقدم بشجاعة، مُصدرًا قراره بإعفاء غلوب باشا وكبار الضباط البريطانيين، ليكون الجيش العربي منذ تلك اللحظة، جيشًا وطنيًا خالصًا يقوده أبناؤه، وما إن انتشر الخبر، حتى امتلأت الشوارع بالأهازيج والهتافات، وتعالت زغاريد الأمهات اللواتي أدركن أن أبناءهن، من الجنود والضباط، سيقفون اليوم تحت راية قائد منهم، يُدرك نبضهم، ويُشاركهم قسم الولاء لتراب الأردن.
كان الملك الراحل الحسين بن طلال ، رحمه الله، سابقًا لعصره، لم تكن رؤيته محصورة بقرار اللحظة، بل امتدت إلى بناء جيش قوي، قائم على الكفاءة والانضباط، قادر على الدفاع عن الأرض وحماية السيادة. لذا، لم يكتفِ بالتعريب، بل انطلق في مسيرة تطوير الجيش، فدعم الضباط الأردنيين، وأرسلهم في بعثات تدريبية، وزوّد الجيش بأحدث المعدات، فكان التعريب نقطة البداية لعصر جديد من القوة والاعتماد على الذات.
وجاء عهد جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين المعظم، القائد الأعلى للقوات المسلحة، ليُكمل مسيرة البناء والعزة، مستندًا إلى إرث والده، مُدركًا أن قوة الأردن تكمن في جيشه، فشهدت القوات المسلحة تحت قيادته نقلة نوعية، حيث تم تحديث منظومات التسليح، وتعزيز قدرات الجيش في مجالات التكنولوجيا والحرب الحديثة، ليكون قادرًا على مواجهة تحديات العصر بحكمة واقتدار، ولم يكن اهتمامه مقتصرًا على الجنود في الميدان، بل امتد ليشمل رفاق السلاح، المتقاعدين العسكريين الذين أفنوا أعمارهم في خدمة الوطن، فكان لهم في قلبه مكانة خاصة، حيث حرص جلالته على تحسين أوضاعهم، وتوفير سبل العيش الكريم لهم، تقديرًا لما قدموه من تضحيات.
تعريب قيادة الجيش لم يكن مجرد حدث في التاريخ، بل كان نقطة تحول صنعت هوية الأردن الحديث، ورسمت ملامح الاستقلال الحقيقي، هو درس في الإرادة، ورسالة بأن السيادة تُبنى بالقرارات الشجاعة، وبأن الجيش العربي الأردني سيبقى حصن الوطن وسيفه، قويًا بأبنائه، شامخًا بعقيدته، وفيًا لرسالته التي كُتبت بالدم والعرق، وستظل محفورة في وجدان الأمة إلى الأبد.
حفظ الله الأردن، وأدام أمنه واستقراره، وحفظ مليكه المفدى جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، وولي عهده الأمين، وشعبه الوفي، وجيشه الباسل ، وأجهزته الأمنية ، درع الوطن وحامي حماه.